كتبت- رنا الجميعي:
تسمع أن الصهاينة قادمين، الكل يتأهب للرحيل، إنها الحرب التي لا تبقي على أحد، لكنها ظنت أنها سوف تعود، أيام معدودة وسترجع لبيتها، حظيرة حيواناتها، أشجار الزيتون، تنثر الحب للطيور، تغلق أبواب الحجرات جيدًا، تأخذ ما يمكنها من العيش هي وأسرتها الصغيرة، لا تنس مفتاح البيت، تخبأه بصدرها، تغلق الباب بقلب معلق بالأمل، تلقي النظرة الأخيرة على طريق حفظته من كثرة السير به، لم تعلم حينها أنها لن ترى قريتها لعقود طالت، وأن الشتات سيلازمها.
فلسطين داري ودرب انتصاري
تظلُّ بلادي هوى في فؤادي
ولحناً أبيّا.. على شَفَتيَّا
الأمل الذي يعلق بحنايا البشر، ظل بداخلهم بانتظار العودة، أجيال قدمت، وفنت وجاء غيرها، تربت على الأمل القابل للتجدد، ورغم تتابع الخيبات، كبر الحلم مع مرور سنين عديدة على لحظة التهجير في الخامس عشر من مايو عام 1948، ذلك الأمل الذي تمثل في مفتاح العودة.
بعضهم عض على أصابعه من الندم، لم يخال أن امتلاك بعض الأراضي لليهود سيصير ضياعا للأرض الكبرى ''فلسطين''، لم يتصور أن الخطوات المتمهلة لليهود بامتلاك أرض تلي أخرى، ستحولهم إلى مُلاك ما ليس لهم، وتجئ لحظة كانوا غافلين عنها، ليجدوا أنهم طًردوا من بيوتهم، قراهم، من فلسطين كلها، ويصير صورة المفتاح بملمسه البارد كل ما تمثله لها الأرض.
طحَنُ الخُبزَ طعامَا
أنا من خمسينَ عاما
ازرعُ الأرضَ خِيامَا
لم تكُنْ أعينُكُمْ عمياءَ لكنْ تَتَعامَى
ما فتِئْتُمْ تغرِسونَ اليأسَ وعداً يَتَنامَى
في مدى خمسينَ عامَا
تتهاوى أسقُفُ العِزّةِ للأرضِ حُطامَا
''اللاجئين'' صارت وصمة تلحق بأسمائهم، أكثر من 750 ألف فلسطيني كانوا هم الموجة الأولى للتهجير بفعل الجماعات الصهيوينة، يليها أعداد كبيرة انتشرت بأراضي الله، تهدمت أكثر من 500 قرية، تحولت المدن الفلسطينية إلى مستوطنات صهيونية، ومُحيت اللغة العربية من شوارع فلسطين وامتلأت بالعبرية، حتى الخريطة أعلنتها بكل وضوح أن ما يدعى إسرائيل صار الدولة الرسمية. غير أن الجميع لا يزال يتحسس المفتاح.
خيبة 48 لاحقت الفلسطينيين، ليعانوا بمخيمات اللاجئين في سوريا، الأردن، قطاع غزة والضفة الغربية، وأسوأ الأوضاع كانت بلبنان
حيث يعيشوا هناك في فقر مدقع، ثم بسوريا لأوضاع الثورة، ويبهت المفتاح .
''خيبات'' لم تكن فقط بالمخيمات، الأمل الذي ظل يربو بصدورهم للرجوع لأراضيهم، تجئ المعاهدات والاتفاقيات والكلام البلاستيكي لتزيحه قليلًا، أحاديث لم تصبُ لصالح الأرض، فقد كانت لصالح المظهر العام، وحقوق الإنسان التي يتشدقوا بها، ويظل المفتاح معلقًا بسلسلة حول جيدها.
تبرق عيناها كلما تذكرت دارها، أرضها التي زرعتها بالزيتون ليورثها أبنائها، أولادها الذين تربوا بالمخيمات، على الحلم والأمل، ليصبح إرثهم وحلمهم الكبير ''العودة لفلسطين''، لأراضي تهجروا منها قسرًا، ليوطنوها من جديد ويزرعوها حبًا.
ويبقى المفتاح رمز لعودتها، يلازمها بحياتها، تنقلها لابنها حين الممات، ليظل المفتاح شاهدًا على أجيال يكبر معها حلم العودة.
وتحسس المفتاح ثم تلا آية
قال الشيخ منتعشًا : وكم من منزل في الأرض يألفه الفتى
قالت : ولكن المنازل يا أبي أطلال
فأجاب : تبنيها اليدان