كتبت- دعاء الفولي:
المنشد يشدو نورًا من قصائد قديمة، لحن يُعزف على العود، إضاءة المسرح خافتة، تتناسق مع ما يُقال، الجمهور يتأرجح يمينًا ويسارًا ببطء، مع ابتهالات الشيخ، دون قصد، الراقصان يتحركان بشكل دائري، لا ينبس أحدهما بحركة شاذة، سوى الدوران، لا يعيان أغلب ما يحدث، تصفيق المستمعين، بكاء الشيخ، تقسيمات الآلات الموسيقية، ينتهي العرض، يعود الراقصان لحياتهما العادية، زحام المدينة، شقاء البحث عن ''لقمة العيش''، والتعامل مع أناس يقر معظمهم أن الرقص ليس من شيمة الرجال، حتى وإن كان مختلفًا.
15 عامًا أو أكثر جمعت ''سيد عبد البصير'' و''أحمد موسى'' بالرقص، من الفنون الشعبية وحتى المولوية، بدأ الأول مشواره بعد إنهاء الثانوية الصناعية ''وقتها قررت أشتغل في مسرح البالون كراقص فنون شعبية''، كانت تلك المرحلة الأولى التي مر بها ''عبد البصير''، لم ينفصل عن حبه للموسيقى منذ كان صغيرًا، حتى ولو بالعزف ''لكن والدي كان شايف إن الفنون الشعبية متعارضة مع الدراسة''، ما لبث أن أنهى الثانوية حتى اتجه لما انشغل به، لم يتركه من وقتها، وبينما يشارف عمره على السابعة والثلاثين، وتقترب سن ''موسى'' من الثالثة والثلاثين ''لسة بقنع أبويا بالشغلانة''، يسيطر عليه الشغف بها كحال صديقه ''لكن أبويا صعيدي وشايف إن الراجل ميصحش يرقص''.
فرقة ''رضا'' المسرحية كانت المكان الأول الذي عمل به ''موسى''، تعلم الرقص من هناك، على حد قوله ''كنت خلصت ثانوي ومعرفتش أكمل تعليم بسبب انشغالي بالرقص''، بضعة سنوات استمر فيها مع الفرقة ''كانت تدريباتنا صعبة ومحتاجة رياضة مستمرة''، حتى اصطدم برقص التنورة ''سبت شغل الفنون الشعبية عشانها''، في نفس الوقت اتجه الراقص الأكبر سنًا إلى التنورة ''اضطريت أتعلمها لأنها أصعب من الفنون الشعبية بس سوقها أوسع''.
تدريبات التعامل مع رقص التنورة تتطلب وقتًا وجهدًا ''بنبقى شايلين من 20 إلى 30 كيلو وبنلف بيهم أكتر من نص ساعة''، بعد عشر سنوات، اعتاد الصديقان الدوران بتلك الأحمال ''الموضوع بالخبرة أكتر مبيبقاش فيه تعب بعد فترة''، ذاع صيتهم بين أفراح الأقارب والمعارف ثم دعوتهم للأماكن المختلفة، كانت تلك المهنة هي حياتهما إلى أن قابلا رقص المولوية.
''المولوية مش رقص وخلاص هو أقرب لحالة من التصوف، والتصوف حياة''، عندما صعد ''عبد البصير'' للمرة الأولى على المسرح ليؤدي عرضًا على أناشيد من غناء ''عامر التوني''، ''كنت خايف جدًا ولسة معرفش طبيعة الرقص إيه''، فوجيء أن الأمر أبسط من التنورة كثيرًا ''الدوران أبطأ والحالة الروحية مختلفة بتخلينا مبنحسش بتعب''. بينما انتابت ''موسى'' حالة من الارتياح بالرقصة ''كنا أول مرة في قصر محمد علي وانبسطت جدًا وحسيت إني في عالم مختلف''.
التسبيح والورد القرآني هما ما يستعين به ''موسى'' قبل بدء الحفلة التي يسميها المتصوفون حضرة ''أول ما بنبدأ الحضرة بركز مع القصائد اللي بيقولها الشيخ عامر ومع التسبيح اللي بقوله''، حالة من الانفصال تجتاح الراقصين أثناء العرض ''مببقاش سامع الناس بتقول إيه ولا شايف اللي بيحصل بشكل كبير''، رغم أن الدوران في رقص المولوية يستغرق وقتًا أطول ''لكنه بيساعد على احتمال اللف بالتنورة''.
لم تتراجع حالة شغف ''موسى'' برقص التنورة بعد ثماني سنوات قضاها في مجال المولوية، يقطن بمنطقة ''بولاق الدكرور'' مع زوجته و''عبد الله'' و''ملك'' ولديه، يُحدثهما عما يفعل، كيف يقضي ساعات في حفلة بالهند يرقص على الطريقة الصوفية، كيف يصافحه الأجانب مبتهجين بما يُقدم، لا يخجل مما يحب ''أنا عمري ما هسيب الرقص إلا لما أبقى مش قادر أقف على رجلي''.
يعاني ''عبد البصير'' لإقناع أبناء المنطقة ب''صفط اللبن'' حيث يسكن بما يفعل ''بعزمهم على حفلات في الساقية عشان ييجوا يشوفوا وبنقعد نتناقش''، وكذلك حيث يعمل ''بشتغل موظف حكومة في محافظة الجيزة''، من العاشرة صباحًا حتى الرابعة عصرًا ''وبعد كدة بتبقى التدريبات على الرقص بتاعي أو لو عندي حفلة''، تقبل ثقافة أن يعمل أحد الرجال بالرقص ليست موجودة بعد، ينأى ابن الثالثة والثلاثين عن توضيح الأمر لأصدقائه كما يفعل الأول ''معظمهم شايف إن اللي بعمله حاجة سهلة وأي حد ممكن يعملها فبحاول متكلمش كتير عن الشغل''، لا يتنازل عن محاولة توصيل الصورة الصحيحة للأب الصعيدي ''لما بروح حفلات برة مصر بحكي لوالدي عن اللي حصل، بدأ يتفهم شوية لكن مش بشكل كبير''.
''شهد'' و''يوسف'' و''محمد''، أبناء ''عبد البصير''، أوسطهم ذو الخمسة أعوام بدأ يتبع خطى الوالد في الرقص ''بيسألني أنت بتعمل أيه وبيقلدني''، لم يمنعه الأب ''بس مستني عليه لما يكبر شوية''، إذا ظلت رغبته في التعلم قائمة ''هاخده معايا أفراح وحفلات وأدربه تحت إيدي''، أما في الوقت الحالي فيكتفي بإجابات مقتضبة على أسئلة الصغير التي لا تنتهي ''بيقولي إنت لما بتلف يا بابا مبتتعبش؟ بقوله إني بتعب بس عشانكوا وعشان أنا بحب اللي بعمله''.
ما يهون الثقافة السائدة على ''موسى''، ''لما الأجانب بيطلبوني أسافر برة أعمل عروض تنورة أو مولوية بحس أد أيه الناس بتقدر الفن''، لا ينتظر تشجيعًا من أحدهم ''المهم إني بستمتع باللي بعمله''.