كتب- محمد مهدي:
30 دقيقة هي المدة التي استغرقها المركب من كورنيش أسوان بالقرب من محطة القطار إلى ''غرب سهيل''، أبرز القرى النوبية، يمكن اختصارها إلى نصف الوقت عن طريق المواصلات العادية، يعرض أهالي القرية الضيافة على كل غريب، فيما تبدو البلاد خاوية على عروشها من أي أجانب أو زائرين.. يعتذر ''أهل القاهرة'' للأهالي بلطف مفضلين التجول في الأنحاء للتعرف أكثر على المكان، النوبة في مخيلتهم خارجة من فيلم قديم أو لوحة داخل مكتبة؛ وشوش سمراء طيبة، وبيوت ملونة مُطلة على النيل، أفراح وغناء، ودنيا لا تشوبها شائبة زحام العاصمة ومشاكل أهلها المعتادة، فهناك الحياة البِكر التي لم تلوث بَعد، والخير الذي لا حصر له، هكذا كانت المشاهد تتوارد إلى أذهانهم، ليجدوا أن الأمر يختلف عما تخيلوه عن النوبة، فثمة حزنا تتشح به الوجوه، وركودا لا يمكن تجاهله.
أمام بوابة حديدية ملصق على واجهتها لافتة مدون عليها ''جمعية تنمية المجتمع'' كان الشاب النوبي ''عمر محمد مغربي'' يجلس بجسده النحيل بين عدد من أصدقائه، يكسر ملل الوقت بالحديث إليهم في أحوال القرية، ينظر من حين إلى أخر إلى مقر الجمعية ويلفظ من داخله زفرة مُحملة بالحزن واليأس، فالأحوال تغيرت كثيرا عما قبل ثورة 25 يناير، تحول زحام السياح على القرية إلى خَرس تام، توقفت الأعمال وساد الكساد، وفقد هو وظائف مهنته التي يقتات منها لقمة العيش '' لما كان فيه سياحة مكنش فيه وقت للقعاد.. المكان كان بيتملي خواجات والشغل كتير''.
''ضيافة وركوب جِمال ونشرحلهم أرقام نوبية ويكتبوا اسمائهم إزاي بالنوبي'' قالها الشاب الثلاثيني، معبرا عن الخدمات التي تُقدم للسائحين عند وصولهم إلى ''غرب سهيل'' حيث ينعمون بكل وسائل الترفيه التي يحوزها الأهالي النوبيين، يدخلون إلى بيوتهم ليتناولوا ''الويكا'' و''الجاكوت'' وكل ما لذ وطاب من الأطعمة النوبية، والتقاط الصور التذكارية وشراء الهدايا، مقابل مبالغ جيده اعتبرها النوبيين مصدر رزقهم في السنوات الأخيرة، لكن السياحة ضُربت في مقتل بعد الثورة، وتحولت القرية التي كانت تستقبل 3 آلاف سائحا يوميا إلى قرية مهملة وفقيرة ''الدنيا صعبة بس اتعودنا إننا نساعد بعض لغاية ما الغمة تروح''.
الثورة لم تكن بعيدة عن أهل النوبة، عندما اندلعت في أسوان شاركوا فيها بكل قوتهم، أملين أن تتحرك الأمور وينتهي الفساد من البلاد، حاملين في قلوبهم حلمهم الأهم وهو العودة إلى أرضهم الأصلية ''النوبيين عايزين البلد أحسن ويرجعوا أرضهم قبل التهجير''، المكان الذي يعيش فيه الأهالي من النوبيين وطن بديل عن وطنهم بعد أن تم تهجيرهم أثناء تعلية خزان أسوان الأولى في عام 1912، إلى مكانهم الحالي ''أهالينا كانوا بيشتغلوا هناك بالزراعة.. هنا مفيش إلا وظايف في أسوان والسياحة''.
يعتقد ''عمر'' أن مصيرهم أفضل بكثير رغم كل المعاناه التي يعشونها من أشقائهم النوبيين ممن تم تهجيرهم في الستينات إلى منطقة صحراوية في أسوان بدلًا من نقلهم بجوارهم على ضفاف النيل ''حظنا أحسن طبعًا.. هما اتظلموا، كان ينفع يجوا هنا بس الحكومة ليها رأي تاني'' اللغة لم تندثر وقربهم من أسوان يُسهل عليهم أمور عديدة في العمل أحيانًا، وفي نقل من يتعرضون لوعكات صحية شديدة إلى أسوان ليتلقوا العلاج اللازم في المستشفى العام بالمحافظة.
يمر الخال ''أنور جودة'' رجل ستيني يرتدي جلباب أسود وطاقية بيضاء، من أمام ''عمرو'' وأصدقائه فيقفون احتراما له، ثم يدلف إلى داخل الجمعية، فهو أحد أعضائها ورئيس سابق لها، يتابع بعينيه المكان، مبنى مكون من طابقين وساحة كبيرة لاستقبال الضيوف وإقامة عروض مسرحية ومساحة مخصصة لمباريات كرة قدم، كان المكان ذات يوما منبرا لجلسات كبار العائلات في القرية لمناقشة مواكبة انتشار صيتهم كمكان سياحي بعد إدراجهم من قِبل الدولة ضمن الخريطة السياحية التي يمر بها السياح أثناء زيارتهم لأسوان ''معندناش أثار بس موقعنا متميز والدنيا هادية''.
تتبع ''غرب سهيل'' مدينة أسوان، وتملك جمعيتين لتنمية المجتمع ومركز للشباب ونادي رياضي ومكتبين بريد ووحدة صحية، و3 مدارس و9 مساجد، لكنها تعاني تجاهل المحافظة والدولة بأكلمها في مشاكل تؤذي القرية وتحولها إلى جحيم، فسكانها الذي يصل تعدادهم إلى 10 آلاف نسمة، يواجهون أزمة مستمرة مع الصرف الصحي ''حاولنا نجيب عربيات عشان نحل الموضوع فشلنا ندخلها جوه القرية'' فيما تغض الحكومة بصرها عن تلك الأزمة في قرية كانت تعد من أهم المناطق السياحية خلال السنوات الماضية ''ناشدنا المسؤولين إنشاء شبكة جديدة للصرف الصحي لكن محدش بينفذ حاجة''.
الأزمة الكبرى التي تهدد استقرار النوبيين في ''غرب سهيل'' عدم امتلاكهم للأراضي التي يعيشون عليها حتى الآن فالدولة تطالبهم بشهادات ميلاد أجدادهم وآبائهم المُهجرين في أوائل القرن العشرين، ورغم تقدم أهالي القرية بـ 350 ملف مستوفي الشروط عدا شرط شهادات الميلاد، إلا أن الدولة ترفض طلبهم ليُتحولوا إلى ضيوف بداخل أوطانهم لأن لا شيء يثبت حقهم فيها ''معندناش أي ورقة تثبت إنها أرضنا.. مشكلتنا التعسف الإداري، هنجيب منين شهادات ميلاد من قرن فات؟''.
تُعافر ''غرب سهيل'' من أجل عودة السياحة إليها مرة أخرى، وتحقيق مطالب أهالي النوبة في التمتع بمعيشة كريمة، ووصول مشاكلها إلى السلطة في مصر ''احنا هنا محدش سمعلنا صوت'' يقولها الخال ''أنور جودة'' بمرارة شديدة لا تستوى أبدًا مع ما يعتقده القاطنين في العاصمة الكبرى وربوع البلاد عن النوبة.