كتبت- نيرة الشريف:
منازل آيلة للسقوط.. موارد مادية قليلة.. لا عمل ولا مسكن آمن ولا طموح في عودة أمس طيب الروح تمر ذكراه المحببة علي استحياء وتلوح لهم بين حين وأخر بأمل واه، هو في ذاته أقسي من الواقع بكل صعوباته، لا ينطبق عليهم بأي حال قول الشاعر ''ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل'' فأملهم في العودة وفي استعادة الأمس لا يفعل معهم سوى أنه يقتل الفرحة في نفوسهم ويجهض كل قدرة لهم علي التعايش مع الواقع الحالي.. هذه هي حياة النوبيين في ''النوبة الجديدة'' التي يقطنون بها حاليا في الظهير الصحراوي.
في أبريل 2012 وداخل محل صغير بقرية ''العلاجي'' بمركز نصر النوبة، وقف ''عاشور محمود حسن''، الرجل الخمسيني، الذي تم تهجيره من النوبة عام 1964، ليستوطن وعائلته بمكان أخر، كان يقرأ الجرائد كعادته الصباحية، ليجد أن ملف النوبيين قد أعيد فتحه من جديد، وهو الأمل الذي انتظره عاشور وكثير من النوبيين بعد ثورة يناير، كانت الأخبار التي وقعت عين عاشور عليها تقول أن الحكومة ستصدر قرارا بتعويض النوبيين عن الأراضي التي تم تهجيرهم منها منذ أكثر من خمسين عاما.
طيلة عقود مضت ظل عاشور مثله كبقية النوبيين، يحتفظ بعقد ملكية بيت عائلته، والأرض التي كانوا يمتلكونها في النوبة التي رحلوا عنها مرغمين، تلك الورقة التي لا يزيلها من محفظته أبدا، ''تعويضات أيه اللي بيتكلموا عنها، وهيعوضونا أزاى؟''، لا زال يتذكر لحظات التهجير كأنها الأمس ''كان عندي 8 سنين، أنا و7 أخوات غير أمي وأبويا، ولما هجرّونا إدونا بيت واحد نعيش فيه كلنا، البيت ده مقدرناش ناخد غيره لغاية دلوقتي''، كبر ''عاشور'' وإخوته وكونوا أسر وصار لهم أحفادا ''وكلنا لسه قاعدين في نفس البيت، واحد من اخواتي عنده حوالي 7 أولاد، ومحدش عنده إمكانيات مادية ياخد بيت تاني يعيش فيه، حتى اللي عنده منّا إمكانيات مادية مفيش متر أرض فاضي حوالينا نبني فيه''، يحكي الناس عن تعويضات مادية تصل إلى 75 ألف جنيه لكل من هُجر من منزله، فيما يعتبره ''عاشور'' أمرا غير عادل ''المفروض إني بعد صبر كل السنين دي، ناخد أنا واخواتي الثمن ده ونقسمه علينا، مقابل تخلينا عن بلدنا وبيوتنا وعاداتنا وتقاليدنا كل السنين دي؟؟''.
أما سيد حسن،57 عاما، فكان يقف بوجه آمل علي استحياء ناظرا إلي مساكنهم غير الآمنة، ومشاكلهم الحياتية التي لا تنتهي قائلا ''إحنا يئسنا وفقدنا الأمل وخلاص''، ''سيد'' كان يعمل مزارعا، لكن الزراعة ألقت على كاهله بسلسلة من المشاكل –حسب وصفه- أهمها الري، ''المسئولين ييجوا في مواسم يقفلوا علينا المياه، بعد ما كنّا عايشين جنب النيل''، يحكي بقلب ينزف دما عن فالأرض التي جفت والمحصول الذي مات ''ومحدش يسأل فينا، ولما نشتكيهم يكلمونا بشكل مش كويس، ده غير الكيماوي اللي مش موجود''، بعد التهجير أعطت الدولة لـ"ٍسيد'' ومن على شاكلته فدانين ''مينفعوش في شئ، ولا ينفع يتزرعوا، سبتهم لأمي بتأجرهم ب500 جنيه في السنة، واهم بينفعوها جانب معاشها''.
مشكلة سيد مع الدولة تتخطي أنه لا يجد منفذا للحصول علي ''لقمة العيش''، بعد التهجير الدولة أعطت بعض من الناس بيوت، والبعض الأخر أعطته قطع أراضي، لكنها لم تُملك أحد الفريقين شيئا، فقط كتبت لهم عقودا بحق الانتفاع بالأرض أو البيت، غير أن الجميع تساوى بعد التهجير ''اللي كان بيمتلك فدان زي اللي كان بيمتلك 10 فدادين، محدش اخد بعد التهجير أكتر من فدانين في الصحراء، مينفعش بالأساس استغلالهم في أي شئ''، يشير ''سيد'' إلى البيوت على يمينه مستشهدا بهيكلها الآيل للسقوط، قبل أن يشكو بصوت يملؤه الغل ''إحنا معرضين أنها تقع فوق دماغنا في أي وقت، ومعانا وعود بعملية إحلال لها بقالنا أكتر من سنة، ودلوقتي بيتكلموا علي تعويضات، أحنا مش عاوزين تعويضات ولا فلوس، عاوزين مكان آمن ومستقر ينفع ولادنا يعيشوا فيه، ويخرجونا من الصحراء اللي رمونا فيها دي بقي''.
يعبر عن ذلك الخوف من المسكن غير الآمن ''عبد الصمد شاهين''، 55 عاما، رئيس لجنة الإسكان بالمجلس المحلي بالمعاش، فيقول ''أنا عايش في بيت مع 5 أولاد ممكن يقع علي دماغنا في أي وقت''. يقول ذلك وهو يشير إلى كل ركن بمنزله المتخم بالشروخ يعبر عن حالة ''مالناش مكان بديل نروح فيه، وده المفروض يخليني أقبل بأي عرض تقدمه الدولة عشان أخرج من المأزق ده، عاوز حياة أفضل لأولادي، مش عاوز يكملوا باقية حياتهم في الصحراء دي''.