كتبت – دعاء الفولي:
أمسك الصاج الحديدي الضخم، يرفعه بيديه بعيدًا عن الواجهة الزجاجية للمحل الصغير، يفتح التليفزيون الصغير المُعلق على مدخله، زجاجة بلاستيكية، يضغط عليها؛ لينطلق سائل يغطي زجاج ينظفه، يأتيه الصديق الآخر، لا يتكلمان بلغة بلدهما إلا بمفردهما.
عبدالله سيد أحمد، الذي لا يتجاوز الخامسة والعشرين، لم يمنعه صغر سنه من الحنين إلى النوبة، أتى إلى القاهرة للعمل مرغمًا، بين الازدحام هنا والطمأنينة هناك.. يحيا.
سبع سنوات مرت منذ جاء الفتى الأسمر للعاصمة، من مكان مولده بمركز ''إسنا'' التابع لمحافظة قنا، أوصاه أخوه الأكبر ذات يوم الذهاب معه لـ''مصر''، حيث العمل والمكسب.. ''قلت أجرب''، لم يفعل ذلك ضيقًا بالحياة في النوبة.. ''انا مجيتش عشان أهرب من هناك''، بل لرغبته عدم الاعتماد على أحد.
وكما عودهم الوالد السبعيني العمر، والذي لازال يعمل في البناء، فتفرق الخمسة إخوة بين المحافظات المختلفة، إلا أصغرهم ''صابرين'' بالسابعة عشر من عمرها فلم تبرح المكان ''انا وعيد الأصغر مني في القاهرة ومحمد في إسكندرية وبلال بيتنقل''.
منذ عامين، فقد الأشقاء أكبرهم.. ''أيمن الكبير مات في حادثة عربية''، الشاب المُتوفى هو من أقنعه بالمجيء للقاهرة، كان الفتى العشريني لا يرى أخيه الأكبر كثيرًا، لكن لم يفترقا.. ''كنا على تليفونات على طول، لأنه كان سواق وبيتحرك كتير''، شبح دمعة بعين الشاب، يتبعها كلمات الحمد ''هو عمره كده والأمر لله''.
الحادية عشر صباحًا يبدأ العمل بمحل الأحذية، يُغلقه قرب منتصف الليل، لا يترك له انشغاله بالرزق وقتًا للترفيه إلا أيام الإجازة الأسبوعية، شقة بشارع فيصل بالجيزة، تأويه وزملاءه.. ''مش كلنا في الشقة نوبيين، في مننا من مصر''، محل الأحذية يملكه قريب له، وبعد سنوات العمل فيه أصبح يعرف كل كبيرة وصغيرة ''عشان كدة، لما هعمل مشروع هيبقى محل أحذية لأني فاهم فيها كويس''.
معهد خدمة اجتماعية، كان آخر ما حصل عليه من الشهادات الدراسية، قبل رحيله عن ''إسنا''، يوقن أن بلده يمكن أن تصبح أفضل، تُنمى بمشاريع يقوم عليها الشباب، فكر مليًا مع أصدقائه لإنشاء مشروع تنموي فيها، قابلتهم مشكلة السيولة المادية غير المتوفرة، والإحباطات من جانب بعض كبار المنطقة.. ''قالوا لنا مش هتعرفوا تعملوا حاجة''، عندما سمع تلك العبارات تذكر أحد سكان المركز الذي حاول منذ أكثر من عشر سنوات بناء فندق على النيل.. ''وكان معاه فلوس وجاهز على البناء''، لكن بعض عناصر من الحكومة وقتها أوقفوه.. ''فيه شخصية مهمة طلبت تدخل معاه شريك، وهو رفض فرفضوا يخلوه يكمل.. الحكومة مش عايزانا نعمل حاجة كويسة''.
لم تهتم الحكومات المتعاقبة بالنوبة، على حد قوله، ولولا تجاهلهم ما أتى للعاصمة.. ''وكمان القاهرة حرية في الحركة أكثر''، غير أن مساوئ المعيشة في المدينة المزدحمة أكبر من بلده الأصلي، بداية من تعامل المواطنين.. ''نفوس الناس هنا مش صافية، ممكن تبقى بتاكل معاهم ويفتنوا عليك أو يتكملوا عنك وحش''، عكس الوضع بقريته الصغيرة ''هناك بيحبوني ومش عايزين حاجة مني''.
المرات القليلة التي يذهب فيها ابن النوبة لبلده لا تكفيه.. ''النوبة زي أمي وأبويا بالنسبة ليا''، عندما خرج منها في المرة الأولى لم يختلف شعوره عن الذين هُجروا، لازال شعور الاغتراب يراوده بعد 7 سنوات، خاصة عندما يعايره أحد بلونه لأسمر ولو بدافع المزاح.. ''دي أكتر حاجة بتوجعني، أنا مبضايقش حد بس أحيانًا الناس بتألس على النوبيين قدامي''، طريقة الكلام كذلك مادة يستخدمها البعض للهزل.. ''طيب طريقة كلامنا دي زيها زي أي لكنة عند الصعايدة أو غيرهم، ما ممكن أنا وصحابي نتكلم نوبي قدام اللي بيتريق ونمسخره بس أحنا مش هنعمل كدة''.
مع الوقت أصبح يجيد التعامل مع عُنصرية البعض غير المقصودة؛ لا يرد على الإهانات إلا بابتسامة.. ''لو الناس جت عندنا النوبة هنستقبلها ونكرمها وهنمشيها مبسوطة''، يحكي للساخرين عن بساطة أهل بلده وتمسكهم بالتقاليد.. ''انا كنت بروح المعهد بتاعي في أسوان بالجلابية البيضاء''، لم يتركها إلا عند المجيء لمصر ''ولحد دلوقت لما برجع هناك أول حاجة بلبسها''.
القليل الذي يملكه الفتى العشريني يريد تسخير جزء منه للنوبة.. ''إنها تتعمر وتبقى أحسن من كدة''، والآخر لمشروع جديد يبدأ به، رغم ذلك لا ينوي الرحيل عن القاهرة حتى عقب زواجه، جزء من روحه مُعلق بين المدينتين، يترك ذكرياته بمكان مولده عند المجيء، يعود إليها؛ ليلتمس نورًا من طيباتها، يدين لها بالولاء، يعترف أنها صنعته على عينها رغم تواضع حالها.
بالصور.. النوبة التي في ''الظهير الصحراوي''.. موارد ''شحيحة'' ومنازل آيلة للسقوط