كتب – دعاء الفولي:
أنهكته السنين العجاف، لو تجسد في صورة بشرية، لأصبح عجوز يقف وسط أبناءه، تغريب، تخبط بين الحكومات المتتالية، سيرة حسنة عند آل العاصمة، تفاصيل قليلة تنقلها السينما عنه، تختزله بأدوار محددة، العجوز لا يموت، تجاعيده منحوتة في قلوب من يهتمون بإحياءه يوميًا، يتعب من الإهمال، فيشد آل النوبة أزره، لا يمل من إبهار البعيدين عن أراضي الذهب، العجوز "تراث"؛ والتراث روح شخص، ابتسامة عروس نوبية ليلة الفرح، حناء ترسمها سيدة ملتحفة بشال أبيض، يلتف حولها الصبايا، كف "بكار" الرقيق، أغاني "أحمد منيب"، تاريخ نضال وتهجير، عينان تحلمان بالعودة للأرض، رمق أخير يوصي فيه الأب أولاده.. التراث وطن، وحياة.
له أدوات تتجلى، زغرودة بأحد أفراحهم، كف يد على منزل ملون بالأبيض، له قبة زرقاء، تزينه زخارف حمراء تسر الناظرين، وجموع من السعداء يتحلقون في زيهم الناصع، ينحنون قليلًا إلى الأمام، تهتز أذرعتهم في حركة متناسقة، مطرب يشدو "الليلة يا سمرة يا سمارة"، مفتخرا بابن جيرته الذي غاب، العروس والعريس بمنتصف الدائرة يقومون بالحركات ذاتها، قبل ليلة الفرح والحنة، تبدأ المراسم التي تختلف من فرع للثاني، موكب يخرج من فرع "الكنوز"، آل العريس يقدمون لأرباب النوقود _ العروس باللغة النوبية_ ما يُسمى "شيلة"، وهو متطلبات ليلة الزفاف من جوال للقمح وصفيحة من الجاز، بينما فرع "الفاديجا" يقدون أثواب قماشية كمستلزمات للعُرس، ليلة الزفاف يبدأ المشاركون بعقد القران يتبعه أغنية "ماري مارنتو"، ومهر للعروسة "ذهب" أكثر من المجتمعات الأخرى.
تبدأ القصة بالأفراح ولا تنتهي عند ذلك، العجوز –التراث- أذرعه في كل مكان، وكأنها حضارة خاصة، لها طقوس، روادها أصحاب سمت مميز، لغتها في خدمة الوطن؛ يتناقلها الجنود في معركة العبور ضد الصهاينة، هكذا يُحكى، بشرتهم السمراء تاج يؤكد أنه كلما كسى السواد الطلة، زاد القلب بياضا..
تراثهم يتجلى داخل "النوبة" ذلك المتحف الموجود حاليًا بأسوان، على الحافة يقع، لكنه لا يزال متشبثا بجذوره، تروى قصته مع كل سائح، كيف أنه لولا وزير الإرشاد "ثروت عكاشة" الذي اهتم عام 1959 في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، بإبلاغ اليونسكو عن آثارهم التي ستُهدد حال بناء السد العالي.
المتحف الذي صممه "محمود الحكيم"، تنجذب له الأعين، ذو طابع خاص، يضم مقتنيات من عصور ما قبل التاريخ باللغتين العربية والإنجليزية، منحوتات، تماثيل بشرية وحيوانية من الطمي المحروق، يتضمن كذلك مجسمات للبيوت في النوبة وطرازها، تاريخ النوبة في عهد الأقباط ثم بعد ظهور الإسلام فيها، مجسمات من سعف النخيل توضح مراحل التهجير الذي مرت به المدينة، أدوات استخدموها للري، الزراعة والتعليم والبناء..
يبتسم العجوز في ثقة، ما بُني على اسمه منذ ملايين السنين لا يضيع هباء، لا يُنسى مع حداثة الدولة، لا تُمحى سيرته رغم الحروب والثورات، عادات ابتدعها السكان الأصليون، توارثتها الأجيال، خشب صندل يستخدمونه لعمل بُخور، يحمل عطورًا ذكية بداخله، نكهات لا يصنعها عطار، طبق كبير يحوي تمر وسوداني وفشار يسمونه "الوليل"، يؤكل في الأفراح والعزائم الضخمة، إناء مستدير يُمسى "كورية"، بداخله "الأبريه"، عجينة توضع بماء وتشرب دون ملاعق، وشخصيات تحدثت عن العجوز، "حمزة علاء الدين"، "علي حسن كوبان" و"مختار خليل كبارة".