كتب- محمد مهدي:
الظلام يجوب الأنحاء في قرية ''أبو سمبل بعد التهجير'' النوبية، يُتمم على رحيل الشمس، بينما كان القمر بازغا في السماء، يُعلن سيطرته على عالم الليل، يساعده سكون تام لا يشوبه خطوات مارة هنا أو هناك، أو همهمات خارجة من أفواه قد تسترق السهر للتسلية، فالمحال مُغلقة قبل منتصف الليل بساعات، والبيوت لا يصدر منها أي ضجيج، كأنها جنة مُغلقة تنتظر أصحابها، أو أن ساكنيها جاءوا من ''نوبتهم الحقيقة'' بتقاليد لم يعبثوا بها أبدًا.
القرية التي تبعد عن أسوان مسافة ساعة بالسيارة، كانت ذات يوم صحراء جرداء خالية من أي معالم للحياة، أما سكانها من النوبيين فكانوا منغمسين في شأن أخر، في مكان غير المكان، وحياة غير الحياة، قبل أن يُقرر الرئيس السابق جمال عبدالناصر، في أوائل الستينات أن هناك حاجة مُلحة لبناء السد العالي، فكان لابد من تهجير ''النوبيين'' قبل أن تغرقهم مياه النيل، فيحل الرئيس ضيفا عليهم في يناير 1960، وسط حفاوة كبيرة استقبله بها أهل النوبة، يقف ''ناصر'' أمامهم مُفعم بالحماسة، يتحدث بثقة ما قبل الهزيمة- نكسة 1967- يعد أهالي النوبة بأن القادم أفضل، سيُنقلون إلى أماكن تليق بتضحياتهم الكبيرة، ويتلقون تعويضات جيدة، وينعمون بالسعادة والحرية والرخاء، ولَم شملهم هو أولى اهتمامات الدولة.. الكلمات كانت رنانة تخرج من زعيم الأمة حينذاك، فتلقفها أهالي النوبة بالفرحة والهتاف '' عاش العادل.. أرواحنا فداك يا جمال''، قصة لم تفقد تفاصيلها أبدًا بداخل ''دهب كبارة'' ذو الثمانين عاما، الذي لا يمل من سردها وتذكر تلك المأساة التي أخرجتهم من النور إلى الظلمات.
''وعد بدون وفاء'' لفظها الشيخ النوبي بغضب واصفا وعود ''ناصر'' التي لم تنفذ حتى الآن.. 50 عاما مروا على حدث جلل في تاريخ النوبيين، يوم التهجير..
زحام كأنه يوم الحشر، الرجال يحملون على أكتافهم ما استطاعوا حمله من أمتعة، يجرون بأقدام متثاقلة مواشيهم، تاركين نيلهم ومنازلهم ونخيلهم، وروحا فقدوها هناك لم تعد بَعد، واطمئنان تخلى عنهما في لحظة حرجة في تاريخهم، يكتمون في القلب حزنا طفح على وجوههم، وخوفا من المستقبل المبهم، وارتباك الدولة حتى في نقلهم، فيما يُمسك الحنين بمعول يفتت به قدرتهم على الصمود قبل حتى أن يغادروا وطنهم، البعض انهار وتمسك بالبقاء في منزله فأخرجته الدولة بالقوة، السيدات كانت تتشح ملابسهن جميعا بالسواد، نحيب وعويل وبكاء يصدر منهن بشكل جماعي دون أن يمتلكن القدرة على إيقافه، يُحملوا جميعا في مراكب أو أتوبيسات تنقلهم مع المواشي، تُنهك وتُنتهك أدميتهم في اللحظات الأولى خارج أرضهم، وكلما ابتعدوا عنها كلما زاد الجُرح الذي لن يمحى أبدا ''شوفنا يوم القيامة واحنا بنتهجر..
واللي كان هيقعد هيتفتح عليه المايه ويغرق''، يحكي العجوز بحسرة.
''جينا لقينا بيوت خربانة.. مجرد حيطان وحالتنا النفسية كانت وحشة'' تفرقت 44 قرية نوبية في أماكن مُختلفة، كان ''وادي الجن'' في هضبة ''كوم إمبو'' من نصيب أهالى قرية أبو سمبل، وعند وصولهم وقف منادي تابع للحكومة بكشوفات يوزع المنازل على الأهالي، ليكتشفوا أنها منازل غير مجهزة للمعيشة، ومعظمها لم يكتمل بعد، لطمة جديدة يتلقاها أصحاب البشرة السمراء، من يسمعهم الآن؟! من ينقذهم؟! قلوبهم اكتست حزنا على حزن، نفضوه سريعا واستكملوا بناء البيوت بما حصلوا عليه من تعويضات، ومضت الأيام صعبة قاسية في ظروف معيشية سيئة، ليُصعقوا في أحد الأيام بخبر انتحار أول نوبي من أصل سوداني بعد التهجير بسبب ضيق الحال ونفاد أمواله وتعففه عن البوح بحاجته لقوت يومه، فقام بحرق نفسه ليتخلص من معاناته ''النوبيين مش متعودين على الشحاته.. مستحملش وولع في نفسه''.
فيما كان ''عبود الحاج عبده'' الرجل النوبي الأربعيني في طريقه إلى القرية قادمًا من القاهرة في زيارة شهرية اعتاد عليها، كمداد لروحه يُطهر بها عقله وقلبه من صخب العاصمة.. ظل ما يقرب من 13 ساعة بالقطار، فترة انتظار طويلة تحملها ''عبود'' بصبر المُحب، وقلب يخفق فرحا قبل أن يصل في ساعة متأخرة من الليل إلى محطة ''كوم أمبو'' أقرب القرى إلى قريته ''أبو سمبل بعد التهجير''- التابعة إداريًا إلى مركز نصر النوبة بأسوان- فهناك يعود إلى نفسه من جديد، يرتدي ''العراقي''- الجلباب النوبي- يجلس مع أسرته وبين أبنائه الذين تركهم في القرية ليتشربوا عادات وتقاليد جدوده منذ صغرهم خوفا من تعرضهم لعمليات تجريف لعقولهم بفعل التنقل إلى القاهرة أو المحافظات الأخرى ''سايبهم هناك عشان يتعلموا ويبقوا وسط أهالينا''.
في الصباح يخرج الأب لـ 3 أبناء أكبرهم ''زياد''، منزله المبني من الإسمنت ذو الطابق الواحد المكون من 4 غرف وساحة واسعة في منتصفه، تطل منها السماء وينزل إليها الحمام ليرتاح من عناء التحليق في الهواء، البيوت تختلف عن طراز البيوت النوبية القديمة التي كانت تصل إلى 12 غرفة فضلا عن مساحة للمواشي، و 4 أبواب أحدهم يطل على النيل.. ينطلق الرجل ليلتقي بالأقارب والأصدقاء، فيما كانت الشمس تمارس هوايتها المفضلة على القرية النوبية الوادعة، بعنفوان وقوة، فتُسعر الحرارة وتُلهب الأرض، بينما تُفتح المحال القليلة المغلقة بهدوء، يتبعها ضجيج محدود يصدره خروج الأطفال إلى مدارسهم -مدرستين ابتدائي واثنتين إعدادي ومدرسة ثانوي وأخرى صناعية وأزهرية- ومن يعانوا من أية أمراض يتجهون إلى الوحدة الصحية، أو مركز طبي مُقام على نفقة فاعل خير، ومن يقع فريسة حالة طارئة عليه أن يقطع الطريق بسيارة خاصة لقرية ''كوم إمبو'' أو ''أسوان'' للعرض على طبيب لإنقاذه ''الامكانيات هناك قليلة جدًا'' يقولها ''أبو زياد'' فيما تكسو ملامحه علامات الحزن.
يقضي الرجل 4 ليالي فقط شهريا في قريته قبل أن يغادرها عائدًا إلى العاصمة، لممارسة عمله كأمين للمخازن في إحدى الشركات لافتقار القرية لأي سبل للمعيشة، ''لو في مصدر رزق في القرية كنا هنقعد.. المعيشة صعبة فبنلجأ للسفر''.. الوظيفة لم تمنع ابن النوبة من كتابة الأشعار ليُلقيها على مسامع المقربين في ليالي السمر التي تكسر حدة غربته الثانية في القاهرة، يحكي فيها عن الوطن والقرية الحبيبة، عن اشتياقه لها.. يتمكن منه أحيانًا شعور بالغصه لندرة المعلومات لدى المواطنين عن أزمة النوبة وعدم عودتهم إلى أراضيهم بعد تهجيرهم في الستينات ''محدش يعرف حاجة عن قضيتنا.. إزاي التاريخ مفهوش نوبة؟!''.
80 عاما مروا من عمرها، زمن طويل تُدرك الخالة ''فتحية أحمد'' أنها عاشت خلاله ما يشبه ملحمة تاريخية، تجلس أمام منزلها بقرية ''أبوسمبل بعد التهجير''، مع سيدتين من جيرانها، يؤنسان وحدتها بتبادل أخبار أهل القرية، ويتندرون على ليالي الماضي الجميل، الحياة الرائقة البسيطة المُحلاة بطيبة أهلها، لم يكن يعكر صفوها أي شائبة، منازلهم المعبأة بكل ما طاب من البراح والفرحة والجمال والهدوء والاطمئنان، تقبع في أحضان النخيل والنيل، وبالقرب منهم تمتد المعابد شاهدة على تاريخ الوطن.. كان حلما جميلا تحول ذات ليلة من ليالي الستينات إلى كابوس شرس ''احنا تعبانين من يوم ما جينا هنا.. كنا قاعدين في بلدنا اللي كلها خير''.
''ياما قسيتي يا بنت بلدنا'' يشدو بها الفنان النوبي الراحل ''حمزة علاء الدين'' كأنه يصف حالة الخالة ''فتحية'' وغيرها من النساء النوبيات اللاتي عانين الكثير في رحلة الهجرة، وانقلبت حياتهن رأسًا على عقب، وربما كانت حالتهن السيئة التي ظهرت في ساعات التهجير، من تشبثهن بكل قطعة من أثاث المنازل، وإبداء حلول طفولية ساذجة عن إمكانية الانتظار وعدم الرحيل من أرضهم، النظرات التي تعلقت بنهر النيل لحفظه في الذاكرة، دليلا على صعوبة الوضع وقتها، فهناك كانت ذكريات الصبا والشباب، العيش في كنف العائلة الهانئة، أيام الزواج وطرح الذرية التي قُرت بهم عيونهن، مشاهد طافت بهن وهن يخرجن من ديارهن فانفجرت الدموع من عيونهن لتترك في الأرض ندبا تشير إلى أن هناك أناس عاشوا في تلك البقعة من الأرض يوما ما وابتعدوا عنها على غير رغبتهم ''منبكوش ليه.. سايبين بلدنا وأرض أجدادنا.. سايبين الجنة''.
في بلادهم الأصلية، قبل أن يهاجروا، كانت الحياة مليئة بالخيرات، لا وجود لأي أزمات مالية من أي نوع، الأحوال ميسورة، يعيشون على ما يزرعونه من خضروات وفاكهة، والتجارة منتعشة فالتجار يأتون إليهم من كل حدب وصوب لشراء البلح، فيما انخرطت النساء في مساعدة الرجال ولم يكتفين فقط بتربية الأبناء، فنزلن إلى الأراضي الزراعية يحرثن ويحصدن ما صنعت أيديهن، واشتهرا بتحويل البلح إلى العجوة ومن جريده الحصائر، وعملوا بصناعة السجاجيد ليحصلوا مقابلها على مبالغ وفيرة ''التجار كانوا يحبوا شغلنا.. ويدونا فلوس كتير''.
''ملقناش مايه، تعبنا من الشمس والعطش'' تُركوا في منطقة مقفرة، بها منازل مبنية بشكل بدائي، بعضها لم يكتمل بعد، لا وجود لمياه أو وكهرباء أو صرف صحي، أو أي وسيلة للمعيشة، لا توجد وحدة صحية، اللهم إلا مخبز صغير يُصدر منتجا غير قابل للاستخدام الآدمي، وزعوا على أنفسهم ما تبقى لهم من خزين قليل جاءوا به من أرضهم لكنه انتهى في أيام، رفضوا إثارة أزمة وتحملوا من أجل الوعد الذي اتفقوا عليه مع الرئيس السابق جمال عبدالناصر، من أجل صالح البلاد في بناء السد العالي، لكن أبنائهم الصغار والرضع لم تسعفهم قدرتهم ومناعتهم الضعيفة في تحمل الوضع البائس المزري، والجو الحار الخانق والأمراض التي انتشرت بينهم بسبب سوء المكان، حسب وصفهم ''بقينا طالعين نازلين على الجبل ندفن ولادنا''.
تُسئل السيدة عن ثمة أمل موجود لديها في العودة مرة أخرى إلى أرض الأجداد على النيل، تمصمص شفتيها، تُحرك يديها بعصبية تطرد ذباب لا وجود له، تتنفس ببطء كأنها تستعيد رائحة الوطن الضائع، ثم تقول ''مش معقول الكبار يرجعوا تاني.. مفيش دلوقتي بلح ولا بيوت.. الجنة راحت خلاص..
الجنة راحت''، تُفسر كلامها المنغمس في اليأس والحزن، أن جيل التهجير من الكبار، شاهدوا الويل من أجل خَلق حياة جيدة في القرية الجديدة-أبوسمبل بعد التهجير- ولا توجد صحة ولا أموال لبناء قريتهم القديمة، لكنهم يورثون الحلم للأجيال الجديدة '' الشباب ممكن يرجعوا.. احنا لا''.
بداخل مسجد القرية، يجلس العمدة ''حسن دهب كبارة''، بجسد نحيل في جلباب طويل ناصع البياض، وعمامة من ذات اللون، يُعدل نظارته الطبية بين الحين والآخر فيما ينغمس في قراءة ما تيسر من القرآن الكريم، قبل أن يقوم للصلاة أو لقضاء حاجة لأهالي القرية، يومه يمضي في إنهاء بعض الأمور الإدارية أو التدخل لإجراء صلح بين طرفين وقع بينهما أزمة ما، كما يحمل الرجل مسؤولية إيجاد حلول سريعة في الأزمات الكبرى مثل تلك التي وقعت فيها القرية حينما استيقظ النوبيين في أواخر عام 2011، على تدفق المياه إلى منازلهم لتغرق في ساعات، بعد حدوث انهيار في ترعة ''نصر النوبة''، بسبب عطل مفاجيء بمحطة الري، عاشت على إثره القرية أيام صعبة وسط الظلام الدامس، قبل أن تتدخل القوات المسلحة لإنهاء الأزمة ''الجيش ساعدنا بوجبات وبطاطين وبنى 50 بيت ودعمنا بـ 5 مليون جنيه''.
''إزاي نحافظ على اللغة والتراث.. وأبنائنا في القاهرة وباقي المحافظات'' تساؤلات يطرحها عمدة القرية فيما تظل الإجابات غائمة في ظل أوضاع خرجت عن نطاق قدرتهم على السيطرة، فالقرية لم يتبقَ فيها سوى العجائز والأطفال، فيما ينتشر الشباب في أراضي الله الواسعة في مصر وخارجها بحثا عن لقمة العيش والحياة الكريمة، لكنهم يطرحون أحيانًا حلولا قد تجد صدى مثل قيام الدكتور''مختار كبارة'' أستاذ اللغات الشرقية بجامعة القاهرة، بوضع كتاب تحت اسم ''اللغة النوبية'' لحفظها، فضلا عن حلول أسرية قد تحفظ التراث من الاندثار ''بنحاول نحكي للأطفال عن تاريخنا واللغة عشان متتنسيش''.
حضر الرجل على مدار سنوات عمره الـ 75، رحلة النوبيين من التهجير إلى البناء في قريتهم الجديدة إلى الاستقرار نوعا ما في قريتهم الجديدة، عاصر مواقف رؤساء مصر مع قضية النوبة، وعود ''ناصر'' التي لم تُحقق، وصمتهم في سنوات النكسة، تعامل ''السادات'' معهم بشكل جيد ووعوده لهم بإعادتهم إلى أرضهم ''زارنا مرة وقال إن ولاده الحقيقين هما اللي عايشين في الجبل والظروف الصعبة اللي احنا فيها''، وانتظارهم لفترة ما بعد النصر، ثم قدوم ''مبارك'' وصمته المريب تجاه القضية، ونجله ''جمال'' الذي بتر أحلامهم بكلماته الجافة ''قال في مؤتمر جمبنا إن دي مسألة أمن قومي''، قيام الثورة وشعورهم أن ثمة تغييرا قد يحدث وأن مصر ستراهم أخيرًا بعينا رحيمة، مرورا بالمجلس العسكري ومرحلته الانتقالية، ثم ''مرسي'' وانشغاله بالسُلطة، وأخيرًا ما نص عليه دستور 2014 من إعادتهم إلى مناطقهم الأصلية ''عندنا أمل نرجع.. وهنرجع إن شاء الله''.