كتبت- دعاء الفولي وإشراق أحمد:
مع السادسة صباحًا من يوم الاثنين 7 إبريل بدأت الجرافات في العمل كعادتها منذ بدأ تنفيذ أمر إزالة 22 عمارة تمتد بطريق مستشفى القوات المسلحة بمنطقة المعادي التي وصفها محافظ القاهرة بـ''المخالفة'' في السادس عشر من مارس الماضي، أيام طوال صوت الانفجار الذي يحدثه ''الديناميت'' المستخدم لإسقاط العمائر رفيق السكان، غير أن الانفجار هذه المرة لم يعقبه سقوط إحدى العمارات فقط، بل تحركت قوات الأمن برفقة البلدوزرات نحو المنازل المقامة خلف العقارات المنهارة، والتي سبق أن تلقى ساكنوها وعدًا بعدم الهدم.
عويل ونحيب، وجوه بدا عليها الذعر والبكاء، لا يهم شخص كبير ولا صغير إلا بالصياح ''هدوا البيوت علينا''، دخان يتصاعد ما بين الناجم عن حريق، وحطام سقط، رائحة الغاز المسيل الذي تم إطلاقه تملأ شارع زيدان الواقع خلف المحكمة الدستورية في منطقة المعادي.
الأنباء عن وفاة أطفال تحت ركام هدم بيتين يتردد في المكان، تتجمهر الأهالي، الغضب والبكاء على الصغار ممن يعرف ومَن لا صلة له بات السائد، بينما في أحد جوانب المشهد كان آخرون يفترشون الأرض، الحطام محيط أبصارهم أينما ولت وجوههم.
لجانب الركام، كانت ''سعاد ميلاد'' سيدة ستينية، تقف أمام بيتها والأثاث الموجود خارجه، حولها كان الأولاد''ربيع رمضان''، ''محمود رمضان''، ناصر رمضان''، وأختهم ''سميرة''، معهم صغارهم، خمسة عشر طفلًا، احفاد السيدة التي تملكت المنزل منذ عام 2001 ''مدخلة كهرباء ومياة''، تصف الوضع صباحًا عندما جاءت قوات الأمن لهدم البيوت القديمة بالأرض ''قالولنا طلعوا حاجتكوا برة عشان هنهد''.
تنتظر السيدة الهدد كالآخرين ''خرجنا العفش وهنبات في الشارع وأدينا مستنيين''، لم تستعد أسرة السيدة التي تعيش معها بالمنزل للخروج بعد ''جوزي وولادي أرزقية وبياعين على باب الله''، وجود بعض جثث أسفل الانقاض جعل الوضع أصعب ''الدنيا كلها صويت ووجع وأهالي العيال لسة مش عارفين يخرجوهم''.
''خوفنا واقفين قدامهم ومعناش حد خرجنا من البيت وفضيناه لهم'' لم تفكر عائلة ''هنية بحري'' في المقاومة بعد تقدم قوات الأمن لإخلاء لإزالة البيوت، أب وأبناء أربع وأولادهم تحتضهم 150 متر، مساحة المنزل التي تسكنه الأسرة منذ الخمسينيات، نشأت به الابنة طيلة عشرين عامًا حتى زواجها وتركها لبيت العائلة لتسكن بالقرب منه لكنها لا تبرحه حتى ساعات المساء من كل اليوم فهي تسكن بالجوار، مشهد الجارة ''أم علاء'' وقوات الأمن تضربها وزوجها لرفضهم ترك بيتهم، كان كفيل لوأد أي رغبة في التمسك بمنزلهم.
تشبثت ''مستورة خميس'' بمنزلها الذي تقطنه منذ 11 عاًما مع زوجها وأبناء اثنين، كانت تنتظر شهر يوليو القادم لزواج ''علاء'' الابن الأكبر لها في الدور الأول ''كنت بوضبهوله''، أبى الزوج الخروج من المنزل فانهال عليه فرد أمن ''بالطبنجة على دماغه'' حسبما قالت ''خميس''.
رأت السيدة والد أبناءها ينزف ''دخلت أحوش عنه'' فنالها نصيب من الضرب ''راح الظابط مديني بالبوكس في وشي''، سن بالصف الأمامي سقط جراء ذلك وتورم نال وجه السيدة الثلاثينية إلى جانب سباب تلقته الأسرة واحتجاز الابن الأصغر ''ابني عبد الله خدوه قسم دار السلام هيضيعوا عليه السنة''، فالشاب ابن السابعة عشر عامًا يدرس في الفرقة الأولى بكلية السياحة والفنادق ولديه اختبار بالغد على حد قول ''خميس''.
منذ الشهر الماضي انتاب القلق السيدة كغيرها من سكان المنازل الواقعة خلف العمارات، فتكرر سؤالها ''هو أنتو هتهدوا بيوتنا'' لضباط الجيش والشرطة المشرفين على عملية الإزالة فكان يأتيها الرد بعد معرفة مكان سكنها ''أدخلي يا ماما جوه بيتك محدش هيجي عندكم أحنا ما بنهدش على حد قاعد أحنا جايين للعمارات اللي بره'' حسب تأكيد السيدة التي تتذكر آخر لحظة مقاومة قبل نزع ''البلدوزر'' لباب المنزل ''كنت عند المدخل جريت أدخل وأقفل الباب الحديد راح شايلينه وجابوني وضربوني بالعصيان'' وفقًا لـ''خميس''.
''رئيس الحي قالي إحنا مش جاينلكوا أنتوا يا حج''، كررها ''محمد عبد الهادي'' وقميصه الأبيض ممتلئًا بتراب المنزل الذي أفرغوا محتوياته، ورماد الحريق المشتعلة في أحد المنازل بجانبهم، بائع البطاطا بمنطقة المعادي يقطن بمنزله المبني من الطوب اللبن منذ 19 عام على حد قوله ''مربي عيالي كلهم فيه''.
ما طمأن الرجل الستيني وزوجته ''فاطمة محمد'' التي أمسكت بأوراق ملكيتها للمنزل، تكرار ما قيل من قبل الحكومة أكثر من مرة، أن العقارات المزالة هي الموجودة على الواجهة الأمامية ''هو بيتنا دة منظر بيت جديد ولا مبني بعد الثورة زي العمارات التانية''، 300 متر هي مساحة المنزل الذي يضم الزوج والزوجة وسبعة أبناء،'' مدخلين كهرباء من 2002'' قالت الوالدة.
جاءوا من منطقة ''القصير'' بالصعيد للسكن بالمنزل، ومع مفاجأة الهدم ''هنرجع إزاي؟ يعني حتى عشان أهلنا يبعتولنا عربيات تلم العفش هنقعد يومين تلاتة في الشارع''، قال ''محمد'' أحد أبناء ''عبد الهادي'' بينما تتنقل قدماه على الأثاث ''أدينا بايتين في الشارع لحد بكرة''، عندما وقع القتلى أسفل أحد العمارات المتساقطة بجانبهم ''سمعنا إن فيه نيابة هتيجي تعاين''؛ فنصحهم أحد الجيران بترك متعلقاتهم في الشارع كما هي حتى تأتي النيابة وتراها.
حاولت أم الأولاد بكل ما استطاعت إليه سبيًلا إنقاذ المنزل، عن طريق التوسل إلى رئيس الحي ''بوست إيده والله إنهاردة قلتله أنا معنديش بيت أروح فيه قالي انا مليش دعوة يا حاجة''.
سقف من القش وحطام آثاث، أواني فارغة على الأرض العفرة جراء الهدم والحريق ما تبقى لـ''فاطمة'' وزوجها ''ده السقف اللي كنت عايشة تحته يا ناس'' تصيح السيدة بينما تضطر مع عائلتها لقضاء الليلة في الظلام لانقطاع الكهرباء عن المنطقة.