كتبت – دعاء الفولي:
بين جنبات السجن التقيا، أحدهم زُج به بسجن انفرادي لعدة أيام، يناجي فيه ربه، يُطمئن نفسه أن ما يفعله يصب بمصلحة الوطن، قبل أن يُلاقي شريكه الآخر بسجن برج العرب بالإسكندرية، في عنبر 21 يقضيان الأيام في الغناء للشيخ إمام ''يا مصر قومي وشدي الحيل''، الإضراب الذي شاركا في الدعوة له بدأ يؤتي ثماره، عمال توقفوا عن العمل بمدينة المحلة، تغطية إعلامية جيدة، اطمئنا أن المواطن لن ينسى يوم السادس من إبريل 2008، حتى لو دفعا السجن ثمن دعوتهما له.
6 سنوات مرت على إضراب 6 إبريل، الذي بدأ من مدينة المحلة الكبرى، عن طريق عمال الغزل والنسيج، أبطاله كُثر، أبرزهم ''كمال الفيومي، و''كريم البحيري''، كانوا قبله يسعون إلى ''لقمة العيش''، حولتهما الأحداث إلى السجن 3 أشهر، في عام 2014 تظل تفاصيل السجن حاضرة، لا يحزنهما دخوله بقدر أن ما سعوا إليه وقتها لم يتحقق حتى الآن.
كان ''البحيري'' الذي يبلغ حينئذ 23 عامًا بفندق ''عمر الخيام'' بالمحلة، فجر السابع من إبريل يخطط لليوم الثاني للإضراب، عندما داهمت قوة كبيرة المكان ''أكثر من 20 عربية أمن مركزي''، ليقبضوا عليه ''ورحلوني على قسم شرطة السلام''، ثلاثة أيام لا ينساها الشاب العشريني ''بين تعذيب وكهرباء عشان أعترف بالتهم الموجهة ليا''، فيما كانت إجاباته حينها تنحصر في ''معرفش''، جاءته الرحمة الإلهية عندما تم تحويله لسجن برج العرب ''التهم كانت تحريض على الإضراب والقتل والتخريب وغيرها''، ليجد زملاءه من الذين ساهموا بالدعوة للإضراب.
حينها كان ''الفيومي'' الذي يكبره بأكثر من خمسة عشر عامًا بحبس انفرادي، جاءه بعد أن قُبض عليه بالشارع مساء يوم الإضراب ''كنت الساعة 2 ونص في الشارع وجم أكثر من عشرة لابسين مدني حواليا واقتادوني للقسم''، بعد عدة ساعات مكث فيها داخل القسم ''جالنا أمين شرطة انا وزميلي كان معايا بيقولنا هتترحلوا على أمن الدولة''، لم يشعر الرجل الأربعيني بالخوف كوقتها ''كنت عارف التعذيب بتاع أمن الدولة ولما روحت دخلوني حبس انفرادي بس محصلش ليا تعذيب''.
تسلية وقته لمدة ثلاثة أيام داخل الحبس كان بعدة أشياء يُذكر بها نفسه ''كنت بقول لو موتوني مش هبقى عملت شيء يؤذي البلد أو يغضب ربنا''، التخريب هو الاتهام الذي وجه له كحال صاحبه ''احنا اللي كنا بنحمي المصانع وبنقف على بابها عشان محدش يخربها، هنخربها إزاي؟''، هكذا قال للضابط الذي قام باستجوابه، بينما وضع على عينيه عُصابة ''كانت إيدي مربوطة لضهري والظابط قالي إنه جايلي من مصر مخصوص، فضل يستجوبني من 12 بليل للفجر''.
في الخارج كان الإضراب قد انتشر بمدينة المحلة، مظاهرات تبعت يوم 6 إبريل، صورة الرئيس حينها، محمد حسني مبارك، أُسقطت من مكانها، علم العاملان بذلك، فانتشيا ''حسيت وقتها إن الثورة اللي عايزينها بدأت تحصل''.
''هدف الإضراب كان إن مبارك يسقط''، هكذا فكر ''البحيري'' مع رفقائه، بدأوا الدعوة له قبلها بـ3 أشهر ''كنا بنبعت لكل الشركات الخاصة والعامة لأننا كنا عارفين إن الاقتصاد هو حجر الدولة وهو اللي هيضغط على مبارك''، بدأت الفكرة تنتشر بعد ذلك على مواقع التواصل الاجتماعي والحركات السياسية ''كان معانا في السجن مدونين وناس نزلوا مش عمال، لكن للتضامن مع مطالبنا''، بالإضافة للإسقاط، كان مطلب الحد الأدنى والأعلى للأجور.
بالنسبة لهما فأحوال العمال لم تتحسن كثيرًا، والدولة لازالت تلقي بأبنائها داخل السجن، على حد قول ''البحيري''، ''كل الرؤساء من أول مبارك لحد عدلي منصور محدش لا اهتم بالعمال ولا بغيرهم''، منذ عدة سنوات قرر الشاب الذي يدرس الإعلام حاليًا بالجامعة المفتوحة الذهاب للقاهرة ''بدأت أعمل كصحفي''، لن تمنعه مهنة المتاعب العودة لعمله القديم بمصنع غزل المحلة عندما يُقرر المسئولون إعادته بعد طرده من المصنع عقب الإضراب ''صحابي كلهم رجعوا المصنع إلا أنا ورفعت قضايا كتير ومفيش فايدة''، قبل عام 2006 كان يرى السياسة مجالًا للصفقات ''وأنا مبدأي أبيض أو أسود مفيش وسط''، لذلك لم يحسب نفسه من روادها يومًا، بل مجرد فرد يسعى للحرية.
أما ''الفيومي'' فلا يختلف رأيه كثيرًا ''دولة مبارك أصبحت تحكم تاني بعد ثورتين مرينا بيهم''، لا يندم على أيام قضاها على رصيف مجلس الشعب مناديًا بمطالب عمالية وأخرى متعلقة بالعدالة الاجتماعية، يوصي ولديه ''محمد'' و''محمود''، بالنضال كما علمهما إياه. عندما زُج به في السجن للمرة الأولى ''هما اللي شالوا لبيت وكانوا رجالة''، كان أكبرهم ''محمد'' لازال يدرس التمريض بجامعة الإسكندرية، بينما الأصغر بكلية التجارة.
كان الأب قبل اليوم الموعود بأحد الاجتماعات التي نظمت للإضراب ''وعرفت إن فيه احتمال للاعتقال''، ذهب للمنزل، حدث أبناءه عن الوضع ''قلت لهم خلّو بالكم من البيت''، بعد اعتقاله ذهب أكبرهم لنقابة الصحفيين ليتحدث عن والده ''قال إنه مش زعلان إني اعتقلت لأن دة دليل إني صح وإنه فخور بيا''.
بدأ الاعتقال وانتهى دون أسباب واضحة، سوى تُهم عامة وجهت لـ''البحيري'' و''الفيومي''، كما جاءوا بهما للحجز، أخرجوهما، عبارات رددها ضابط شرطة ساعة الإفراج على مسمع الشاب ''قالي خليك جنب الحيط''، لم يكن من ''البحيري'' إلا أن قال ''اللي بيمشي جنب الحيطة بتقع عليه''، من وقتها لم يترك أحدهما حدثًا إلا شاركا فيه، ''حيطة'' الخوف كُسرت بنفسهما بعد المرة الأولى للاعتقال، بينما لا يزال لسان حالهما ''احنا مش عايزين غير إننا نبقى أفضل وهنفضل نسعى لدة لحد ما نموت''.