كتبت- إشراق أحمد:
مع دقات السادسة يدير عامل ''شركة الكراكات المصرية'' المحرك، تبدأ المعدات في العمل، يعلو صوت ''البريمة'' مندفعة بمياه عكرة، يدب البلدوزر أسنانه ضاربًا مياه النيل، ينال من قاعه بقبضة من باطن الأرض تزيد من زمام الردم، في حين يودع ''جمعة السيد'' أبناءه الثلاثة إلى مدارسهم بعد ركوبهم المعدية، يتوجه بمركبه الخشبي الصغير إلى مكانه أعلى تلة قرب محطة المياه المحاطة بأسوار حديدية لا يجوز لأحد تجاوزها، يطول انتظاره والشبّاك ساكنة لا يقدر على قذفها ولو بمعاونة زوجته، ''المنطقة ماتت'' تؤكدها نظراته لبراح الماء الذي كان يومًا مصدر رزقه، بينما يعبر الأخوان ''خالد سعد'' و''عرفه'' إلى أرضهما بالجانب الآخر من جزيرة ''الوراق''، يساور القلق نفوسهم حتى بعد استطاعتهم إيقاف الردم قبالة زراعتهم، فإحدى شبكات الري ''نشفت'' ولا ضمان لسبيل حياتهم الوحيد سوى ''ربنا'' طالما المحركات تعمل.
جاء قرار وزير الري ''محمد عبد المطلب'' بردم ما يقرب من 50 ألف متر مكعب من مجرى النيل بإمبابة وتحديدًا بالشط المقابل لجزيرة الوراق بهدف إقامة حديقة عامة، بمثابة الصدمة للصيادين العاملين بالمنطقة وكذلك لعدد من المزارعين لأفدنة تخصهم في الزمام ذاته، حيث توقف الصيادون عن العمل منذ شهر ديسمبر الماضي منذ بدأت أعمال الردم.
مساحة شاسعة تحتضن أناس ''على باب الله'' كما يصفون أنفسهم، ما كانت الشكوى والدلوف إلى المشاكل طريقتهم، فحياتهم هادئة حال صنعتهم، والصبر شيمة عرفت طريقها إليهم من الميلاد ميراثًا عن الأجداد، لكن آن له أن يظل بالنفوس مع توقف دفع المجداف ورمي الشباك لتنال سمكة تطعم فم وتكف اليد عن السؤال.
تستمر الحياة بالطريق في الأعلى، سيارات لا تتوقف عن إطلاق النفير ومحال يتوافد عليها الزبائن، بينما توقفت 50 مركبًا عن العمل كانت تسير بعد درجات السلم المتوجه لمعدية ''القللي''، ''المنطقة السمكية في الوراق أدمرت''.
قالها ''يحي سيد'' بينما يجلس بإحدى مراكب النزهة كما يطلقون عليها، صوت ''البريمة'' لم يختفِ بخلفية حديث الرجل الذي لم يبرح النيل منذ 36 عامًا، سنوات حياته منذ ميلاده، عن الأجداد والآباء ورث ''سيد'' الصيد، لا يعمل بغيره، مركب خشبي وشبّاك تدر دخلها على أسرته ''مالناش لا شغلة ولا عيشة غير البحر''، من سنة 1919 تسكن أسرة الرجل الثلاثيني جزيرة الوراق وتعمل بالصيد في تلك المياه ''الأرض عالية ومايتها هادية والسمك بيتكاثر فيها''،50 جنيها متوسط زرق اليوم مقابل بيع 2 أو 3 كيلو من سمك البلطي والقراميط الذي كان موطنه تلك البقعة قبل أعمال الردم، وأسوأ الأحوال إذا لم يأت المشتري، يعود بالسمك غذاء لبيته في ذلك اليوم، لا خسارة في مهنة الصيد رغم أن ''اليوم برزقه''.
مع بداية شهر ديسمبر الماضي أبصر الصيادون قدوم المعدات بدعوى ''التطهير''، لم يعترضوا خاصة أن هذه المرة بعيدة عن ''الموسم'' الذي يتكاثر به الأسماك -شهر إبريل ويوليو ونوفمبر- لكن الأمر تحول إلى ''ردم''، لم تنجح محاولات أصحاب المراكب في منع تلك العملية واستمر الأمر رغم تقديم شكاوى لـ''جميع الجهات'' حتى بلغت إحدى عشر شكوى لا تلق أي شيء سوى مجيء وزير الري وتأكيده أن المشروع للصالح العام وأنه سيتم صرف تعويضات مالية عن أية ضرار تنالهم.
بطاقة هوية ''سيد'' تحمل المهنة ''صياد سمك'' لكن الوزارة لم تعترف بحقه في التعويض المتمثل في راتب شهري يُخصص للصيادين وبدأ صرفه للبعض ''اللي معاهم رخصة بس''، لكن الواقع بين الصيادين يتضمن 17 فقط يحملون رخصة مركب يعمل عليها أسرة أو اثنين ''المركب الواحد بيبقى بتاع أب ومعاه ولاده'' وقد قررت الوزارة أن تعطي التعويض لفردين فقط من كل أسرة، في حين أنها يمكن أن تضم على أقل تقدير 10 أشخاص.
''محمود'' كان جوار الرجل الثلاثيني الذي أخذ ينفث دخان السيجارة متجاوزًا الوقت بالمياه التي أصبحت محرمة عليه، الرجل الخمسيني أحد الحاصلين على مبلغ الـ500 جنية الذي خصصته وزارة الري وتحصل عليه قبل أيام وكان بالنسبة له ''دفوني''، فهو أفضل من لا شيء، ورغم عمل أخيه ''عاشور'' على المركب ذاته غير أنه لم يحصل عليه؛ ''يعني المطلوب يقسمه المبلغ مع بعض كل واحد 250 جنيه'' قالها ''سيد'' صاحب السترة الزرقاء مستنكرًا تصريح وزير الري بعمل ''أكشاك على البر'' أو مراسي سياحية للصيادين ''هيدونا مركب نشتغل عليه''، ففضلًا عن تغيير مهنتهم التي شبّوا عليها، لا تتوافر المبالغ الطائلة لشراء مركب يصلح لذلك ''أقل تكلفة لمركب سياحي 60 ألف جنية هنجيبهم منين''، وتعجب الرجل من الحال الذي آل له الأمر ''كنا راضيين باللي يدهولنا ربنا وبرضو ماسابوناش في حالنا''.
وبينما تواصل ''البريمة'' والمعدات عملها في عرض زمام الصيد المقدر بـ17 فدان، وقف عامل فني بإحدى ميكنات الردم –رفض ذكر اسمه- مرتديًا قبعة تحمل رمز الشركة العامل بها قبل 36 عامًا في ''عرض البحر'' كما قال، لا يعبأ لشيء سوى تنفيذ الأمر الذي جاء بردم ما يقرب من 950 متر ''60 متر عرض و150 متر طول'' في زمام المنطقة، ولا يعلم سبب عمله ''بيقولوا هيعملوا طريق وسمعت أنهم هيعملوا منتجع سياحي''، من السادسة صباحًا وحتى مثلها مساءً، ''لو هضر حد هبلغ الشركة وهى تبلغ المهندس المسؤول'' لكنه كذلك غير مدرك للضرر الواقع ''أنا هنا مش بأذي حد'' إلا تلك الأرض الواقعة خلفه ''ممكن تتضر شوية لكن هتلاقي بديل''، ومع ذلك فهو موقن أن ''الصياد دلوقتي مش هيخسر حاجة'' قبل أن يتدارك كلماته ''لكن بعد كده هيخسر.. يعني اللي بيصطاد هنا يعتبر مات''.
تدفع يداه مجدافين خشبيين، وتستند قدمه اليمنى على القطعة الخشبية المتوسطة لمركبه الصغير، يرتدي قبعة تقيه الشمس، يعرف الجميع مثلهم، فالكل تربى معًا في تلك المنطقة هاديء الطبع حتى في مصابه ''السمكة طفشت مش شايفة'' محاولًا زرع ابتسامة على ثغره قال ''جمعة السيد'' بعد ملاحظته سمكة تقفز خارج المياه التي غير عمل المعدات من طبيعتها و''السمك يستحيل يعيش في عكارة''، شهر إبريل بالنسبة لـ''السيد'' كان ''موسم'' يكثر به ''رزق''جميع الصيادين أمثاله الذين لم يمارسوا عمل أخر غير قذف الشّباك، 7 أبناء يعمل من أجلهم الرجل الثلاثيني برفقة ''زوجته''، يودعوا الصغار إلى المدرسة ويظل الآخرين بصحبتهم، ينتهي عمل الزوج مع السادسة تقريبًا، لتذهب الزوجة لجلب احتياجتهم من ''البر''.
ورغم حمل ''السيد'' لرخصة مسجلة منذ 12 عامًا إلا أنه لم يأت اسمه بين كشوف الحاصلين على الراوتب الشهرية التي خصصتها وزارة الري، يضيق صدره للأمر ''500 جنيه مايكفوش عيالي في أسبوع لكنهم أحسن من مفيش''.
أكثر ما يؤلم ''السيد'' أنه لا يعلم هوية المشروع ''لو كان لمصلحة الناس ياخدوا من قوت عيالي مفيش مشكلة، لكن عشان يشممونا ورد.. حسبي الله ونعم الوكيل''، بالنسبة له ''الموضوع انتهي وأكل العيش خلاص وقف'' مع أول قبضة للبلدوزر في المياه، والأمر ليس فقط لهروب السمك وقتله لكن ''مشروع هيتكلف ملايين هيسيبونا نشتغل جنبه بعد ما يخلص''، ينظر الرجل إلى محطة المياه الملاصقة له ''سوروها عشان محدش يصطاد جنبها أي منشأة حكومية أو خاصة كده''، الواقع رغم عدم تقبل ''السيد'' له إلا أنه يأمل في إيجاد حل وإن لا يعلمه ''الخراب تم عايزين حل''.
جيران ''السيد'' ليسوا بمنأى عن المصاب، مزارعين يعملون بما يقرب من 14 فدان، الأرض بالنسبة لهم ''ملكنا'' رغم أنهم مستأجرين لها من ملاكها، مساحة واسعة تظهر بها البنايات خلف الخضار الغالب على الأفدنة ''قمح وخضار وبرسم'' محاصيل يزرعها ''خالد سعد'' وأخيه ''عرفة'' كل منهما يملك من الأبناء ثلاثة، مثل الصيادين، ورثوا العمل بالزراعة عن الأجداد، منذ 40 عامًا يعملون بالأرض، فتحوا أعينهم على اللون الأخضر، فهو سبيل حياتهم الوحيد ''مفيش حاجة تانية غير الأرض''، بها حققوا اكتفاءً ذاتيا لنفسنا ''والفايض بيطلع''، فالبهائم المتواجدة بالأرض المطلة على النيل تشارك في رزقهم.
أشار ''خالد'' لشبكة ري الأرض المتوجهة إليها وقد جفت ''من خمس أيام''، فخطورة ردم المجرى يعني ''انعدام الحياة عن الأرض'' التي مصدرها الأساسي مياه النيل ''لو الوضع استمر أسبوع بالكتير هتنشف''.
مساكن وجوانب لتربية الماشية، حياة متكاملة يعيشها المزارعون، أمام فرن طيني جلست ''هدى محمد''، لا تبرح المكان منذ 50 عامًا ''حماتي ماتت هنا''، وأباءها مجتمعين في رحاب الخَضّار ''عندي 5 صبيان وبنتين''، لا تخرج إلا للسوق المجاور لشراء الاحتياجات ''على طول قاعدة هنا مستوطنة''، أو لزيارة الأقارب بجزيرة الوراق، الأرض بالنسبة لها ''روحي وحياتي ومنى عيني.. لو طلعت منها أموت''، بجوارها كان ''عنتر إبراهيم'' أحد الأبناء، طين الأرض يغطي يداه، لم يراها إلا خضراء، لا يتخيل تعرضها ''للموت''، يزرعها الآباء والأجداد كمستأجرين، يدفع الابن ثلاثة آلاف كل عام نظير العمل بها من أجل صغاره الأربعة، يقف قرب ميكنة الري التي قل مياها، يتوجس خيفة مع دخول فصل الصيف الذي يزيد فيه استهلاك الأرض للمياه.
استطاع المزارعين الوقوف لعملية الردم حسبما قال ''عبد الرحمن زبادي'' أحد ملاك الأفدنة الزراعية ''لغاية قبل المحطة وقفنا لهم ولو استمر الأمر هنعمل مشكلة''، فالبديل لري الأرض ''عمل مياه موازية'' ويصل تكلفة الماسورة الواحدة ما يقرب من 20 ألف جنية، ولا تفكير في أن يتكبد المزارعون تكلفة ذلك الحل على حد تعبير ''زبادي'': ''هو أحنا اللي ردمنا''.