كتبت - إشراق أحمد:
الخميس 16 يناير، اتفقا على اللقاء بعد أن ينتهي "عبد الرحمن أسامة" من امتحان "تخطيط ورقابة"، ويقضي "إبراهيم شعار" فترة تمرين فرقة "الجوالة"، أصدقاء كلية التجارة، رغم تخرج "شعار" بينما "أسامة" في السنة الأخيرة، الذهاب إلى درس مادة "البنوك" الامتحان القادم له، ومن ثم حضور حفل غنائي بصحبة رفاق آخرين في منطقة مصر الجديدة في التاسعة مساء ذلك اليوم، هكذا قرر الأخلاء انتهازًا لأي فرصة قبل التحاق "شعار" بالتجنيد في الثاني والعشرين من يناير.
"عبد الرحمن" كغيره من الشباب منذ ثورة يناير تحفز للنزول والتعبير عن الرأي، وإن اقتصرت في فترة الـ18 يوم على اللجان الشعبية بمنطقة السكن في فيصل، وفي التحرير كانت له مشاركة في 30 يونيو والثالث من يوليو على حد قول أبيه "أسامة محمود"، أما "شعار" فلسان حاله كلما أرادت والدته "نيفين فاروق" مناقشته في إحدى الأمور السياسية ودفعه للمشاركة في التظاهرات جاء رده "إحنا مالنا بالكلام ده"، فاهتمام الشاب العشريني انصب في الرياضة.
إلى محطة مترو أنفاق جامعة القاهرة توجه الشابان، قلق الآباء بمجرد سماع وجود "قلق" بالجامعة اندفع عبر الهاتف، كانت آخر مكالمة لوالدة "شعار" بالظهيرة، وفي الثالثة والنصف كان الاتصال الأخير بين "عبد الرحمن" ووالده، الاطمئنان إجابة الصديقان على والديهما حتى انقطاع التواصل معهما "اتصلت الساعة 6 عشان أطمن إنه وصل الدرس لقيت التليفون مقفول" لم تتسلل الريبة لقلب الوالد "أسامة محمود" فالظن أنه "قافل التليفون عشان الدرس" كان الأقرب له حتى كلمات ابنه الأصغر "عبد الله": "بيدوروا على عبد الرحمن على الفيس ومش لاقينه"، انفزع الأب لكن "آخر حاجة فكرت فيها إنه يبقى ممسوك"، وكذلك الحال لـوالدة "شعار"، فهو بالنسبة لها أبعد ما يكون عن السياسة حسبما قالت.
اتصال هاتفي لـ"نيفين" أخبرها أنه تم القبض على ابنها في مترو العتبة، بينما ظل والد "عبد الرحمن" في بحث عن ولده الكبير بالمستشفيات حتى الثانية من صباح اليوم التالي، لم يصرفه سوى قول لأحد أفراد أمن مستشفى "أم المصريين":"دوروا في الأقسام بيقولوا في شباب اتقبض عليهم واترحلوا قسم الجيزة"، فكانت الوجهة لرؤية الأبناء "أول مرة أدخل قسم" قالتها والدة "شعار" التي ما كان لها القيام بأي مشاوير غير "أجيب المعاش" منذ تسع سنوات عقب وفاة زوجها، وحتى بعد رحيله أبناءها كانوا مَن يتولون قضاء جميع احتياجتها.
رحلة يومية كُتبت على الآباء منذ تلك اللحظة بعد عرضهم على النيابة في اليوم التالي للقبض عليهم وترحيلهم إلى معسكر الأمن المركزي بطريق مصر إسكندرية الصحراوي في الكيلو 10 ونصف، مدير الفندق الذي يعمل بمجال السياحة لسنوات طويلة أصبح ملاذه رصيف أو أرض يفترشها انتظار لزيارة ابنه، "تعبت مش هو ده اللي بفكر فيه ربنا ما يحكمش على حد مايفرقش تعبت قد إيه وحته من جسمي مقطوعة بعيد عني"، فالوالد ما كان أبناءه يومًا عبء عليه حتى في الوقت الذي لم يستطع "عبد الرحمن" الالتحاق بكلية الهندسة، حلمه الذي منعه عنه مجموعه بالمرحلة الثانوية، لم يحزن الأب بل كلمات الرضا والتقبل كانت لسان حاله لولده.
دقائق لقاء ومعاملة مختلفة تلقاها آباء الصديقين، حرص كل منهم على التأكد من أن يدًا لم تمتد لفلذة أكبادهم "أول لما شوفته حضنته وفضلت أفعص فيه كنت قلقان لاحسن يكون حد ضربه بس الحمد لله" قالها "محمود"، متذكرًا تلك اللحظة التي مرت عليه وكانت الأسوأ على الإطلاق في حياة الرجل"لما حصلت الأحداث في الجامعة مرة تانية حسيت الأمل قدامي فجأة راح إحساس أني رجعت لنقطة الصفر وإن ابني مش هيطلع غير لما الجامعة تهدى وهي مش هتهدى"، حيث تغير التعامل مع الرجل الخمسيني وقت زيارته لابنه "محدش كان عايز يدي معلومة على عكس الأول".
لا يعبأ الرجل الخمسيني بالمادة التي ضاعت على ابنه رغم حصوله على قرار التأجيل مساء ليلة الإمتحان، ولا عشرات الكيلو مترات التي يقطعها كل أسبوع حتى يصل في الثامنة صباحًا بعد ترحيلهم إلى سجن وادي النطرون بل تواجد ابنه خلف أسوار حديدة دون معرفة سبب الجريمة التي ارتكبها "ابنى كان شايل على ضهره شنطة فيها ورق المادة وشال آخره يبقى معاه أقلام وآلة حاسبة"، لم يختلف إحساس زيارة الأب لولده السجين عن أول مرة "عرفت أنه اتقبض عليه" لكن يقينه بأن "ربنا ما يرضاش بالظلم" وقوده حتى "أصبره على اللي هو فيه"، وفي المقابل تأتي طمأنة "عبد الرحمن" بأنه بخير.
"أبشع شيء وهو راكب عربية الترحيلات رايح الكيلو 10 ونص وإيده فيها الحديد" صورة تؤلم والدة "شعار" رغم ضحكاتها وثباتها البادي والذي تظهره لولدها وكذلك هو"بيقعد يضحك ويقول لي اهو تغيير أحسن من شرم ومارينا"، وتبادله القول بأن يمكن اعتبار تلك الفترة "مخيم أو معسكر ومش بعيد تلاقي فرقة عندك"، فرغم قسوة السجن على الشاب العشريني الذي يعاني من حساسية بجسده ورفض الجهات الأمنية فترة احتجازه بمعسكر الأمن المركزي إدخال الأدوية اللازمة له حسب تأكيد والدته.
الملابس خاصة الداخلية منها شيء لا يغيب عن والدة "شعار" كل أسبوع وقت زيارتها لولدها "لأنه بيغير 3 مرات مابيقدرش يعقد أكتر من كده عشان الحساسية لدرجة أنه بيلبسها بالمقلوب عشان التكت ما يتعبش جسمه"، فالابن صار حبيس الظلام والكلابشات التي تؤذي يده "شوفت إيده كأنها متقطعة من الكلابش" حسبما قالت والدته.
عشرات الكيلو مترات وخروجها في السادسة صباحًا من أرض اللواء حيث السكن حتى تتمكن من تسجيل اسمها في زيارة ابنها بتمام الثانية ظهرًا، عربة الترحيلات التي كانت تضطر لاستقلالها في "الكيلو 10 ونص" متحملة ارتفاعها رغم سنها الذي لا يسمح بذلك، الأمراض التي أصابتها "مرة جاتلي غيبوبة سكر وجالي قصور في الشريان التاجي"، واعتداء الأمن على الأهالي في إحدى المحاكمات "جرونا وكفونا على وشنا كل ده عش نبص على ولادنا"، كل هذا يهونه ابتسامة ابنها غير عابئة بكلماته المتكررة "أنا مش مضايقني غير بهدلتكم"، متذكرة يوم عيد الأم حينما حرص أن يكون من أوائل من يدخل إلى حجرة الزيارة حاملًا بيده وردة صنعها لها من "المناديل" لتهنئتها وكذلك ذكرى ميلاد أخته الصغيرة حينما قال "ماتنسيش تجيبي تورتة ولما أطلع هديكي حسابها".
صداقات كونتها "فاروق" من المَصاب مع أمهات غيرها فهذا عزائها كاليقين بأن جميع من قبَض عليهم "قبة الجامعة مقدرتش تجمعهم قضبان السجن جمعتهم".