كتبت- نوريهان سيف الدين:
وجوه لفحتها حرارة الشمس، وعمائم صعيدية كللت هامات أصحابها، أدوات حديدية ذات أيادٍ خشبية ضمت بعضها إلى بعض، مربوطة أمام صاحبها، بينما جلس هذا الصاحب تترقب عيناه يمينا ويسارا، يبحث عن موقع عمل جديد، فمع كل لبنة بناء يأتي مورد رزقه، إلا أن أوقات كثيرة تمر وقد لا يأتي الرزق.
في أحد ميادين حي العباسية، تراهم منذ السادسة صباحا يتوافدون مثنى وفرادى وجماعات، في إحدى يديهم معاول البناء وفي الأخرى ''كيس الأكل''، يقتاتون عليه طيلة يومهم، وقد تكفي ''اللقمة الهنية'' لرجلين وأكثر، إلا أن القوت الحقيقي لهم في انتظار ساعات الرزق لا يخلو من ''خمسينة الشاي والسيجارة'' على حد قول ''خميس الشهير بـأبو أحمد''، ذو اللهجة الصعيدية الوافدة من نجوع المنيا.
دبلومات صناعية وزراعية طواها أصحابها في أدراج منازلهم وربما ذهبت أدراج الرياح، فهي في نظر ''أحمد سمير'' الشاب العشريني ''مابتأكلش عيش دلوقتي''، فهو الحاصل على الدبلوم الثانوي الزراعي منذ خمسة أعوام، لكنه لم يجد ما يعمله بشهادته، فآثر أن ''ينسى اللي اتعلمه ويجي يتعلم صنعة تعيشه''، كما قال عمه ''خميس''.
من أحياء متفرقة يأتون، البعض يأتي من الدويقة ومنشية ناصر، والآخر من المقطم وكوبري القبة، وسيلتهم هي ''الميكروباصات'' في حال إتيانهم بشكل فردي، وإن ''فرجها ربنا وبعت شغلانة'' فتكون ''الهوندا نص نقل'' هي وسيلة انتقالهم بشكل جماعي، عادة ما يدفع صاحب موقع العمل تكلفة انتقالهم من ميدان محدد يتجمعون فيه إلى موقع البناء ليجنبهم ''الدوخة والشحططة'' كما قال ''محمد البنهاوي''.
غرف صغيرة (بمنافعها) يسكنها أصدقاء ''الطوب والزلط والرمل''، لا يقل إيجارها شهريا عن 300 جنيه، قد يتقاسمها شخصان أو ثلاثة على أقصى تقدير، والشرط للتقاسم والجيرة هو ''المعرفة والقرابة''، ففي هذه المهنة ورغم أن ''اصحاب الهم بيعرفوا بعض- كما قال وليد''، إلا أنهم لا يأمنون تواري الهاربون أو المجهولين وسطهم، فهم ''مش ناقصين مشاكل وكفاية الي فينا'' كما علق ''وليد''.
عيون ترصدهم ويرصدونهان وإن اقتربت العدسة منهم تجدهم يتوارون خلف الشال والكوفية الصوفية الصعيدية، ثمة ''أزمة ثقة'' بينهم وبين الإعلام، فهم على الرغم من انتشارهم في الميادين طلبا للرزق، وتناول أشكال الإعلام لمشكلتهم، لكن المعرفة تنتهي بمجرد أن يرحل الراصد عن مكان التواجد، وهو ما علق عليه كبيرهم ''أبو الخير بركات''، قائلا: ''بيعملولنا البحر طحينة وينسونا، دا غير ما بيجرسونا في التلفزيون وإحنا عندنا عيال وعيلة، مش عاوزين نظهر قصادهم شحاتين مش لاقيين شغل''.
''بركات'' الرجل الخمسيني ذو الشارب الأبيض وجلباب صعيدي كلون السماء، قال: ''العمال متوزعين في كذا ميدان هنا في مصر (يقصد القاهرة)، هتلاقيهم في موقف العاشر وسوق القناة وباب الشعرية وكذا حتة، ويجيلهم 300 نفر دلوقت مش لاقيين شغل''، ليعقب بعدها ساخرا ''هما بطلوا يبنوا ولا إيه''.
كبير حاملي معاول البناء بدا عليه اطلاعه على الأخبار وحركة المسئولين في البناء، فهو ذو التعليم الواصل حد الشهادة الإعدادية، والقارئ لـ(الجرانين) التي يجدها على ''فرشة بياع الجرايد'' على مقربة خطوة من مكان تجمعهم اليومي، أدرك أن هناك مشروعا إسكانيا كبيرا ستشرع الدولة في تنفيذه، فقال: ''ياريتهم يبعتوا ياخدونا أهي تبقى شغلانة مضمونة بدل ماهو يوم أه واسبوع لأ''.