كتبت - نوريهان سيف الدين:
لم يعرف عنه التاريخ سوى موقف واحد، كان موقفًا كفيلًا بتشويه تاريخه كله، 51 عامًا هي عمره كله، لكنه ترك بصمة واضحة في ''كتاب التاريخ''، هذا الكتاب الذي لم يذكر في المدارس دوره في ''حادث دنشواي 1906''، واكتفى برميها على عاتق ''الاحتلال الانجليزي''، رغم أن ''هيئة المحكمة'' كانت مصرية، وصدر الحكم من شقيق ''زعيم وطني''.
''أحمد فتحي زغلول بيك''، الذي تمر مئوية وفاته في 27 مارس 2014، هو الشقيق الأصغر للزعيم المصري الوطني ''سعد زغلول باشا''، لكن أحدهما آثر التحالف مع سلطات الاحتلال الموجودة لضمان سرعة الترقي، في حين انحاز الآخر لصفوف الشعب، مفجرًا أول ثورة شعبية للمصريين في القرن العشرين.
ولد ''فتحي'' في فبراير 1863 لأب يعمل ''رئيس مشيخة'' قرية ''إبيانا'' التابعة لمحافظة ''كفر الشيخ''، مدونًا في السجلات الرسمية بإسم مركب هو ''فتح الله صبري''، تعليم بكتاتيب القرية وحفظ لآيات القرآن، ثم الالتحاق بالمعاهد الأزهرية للمراحل الإلزامية، على خطى الأخ الأكبر ''سعد'' سار الأصغر ''فتحي''، فدرس الحقوق وسافر إلى ''فرنسا'' لاستكمال دراسته هناك، لكن ثمة ''غيرة'' دارت رحى حربها الكامنة في صدر ''فتح الله'' تجاه أخيه الأكبر العامل بالدوواوين الحكومية، والمرتفع نجمه يومًا تلو الآخر في صفوف الحركات الوطنية، ورغم هذا؛ لم يتوان الأخوان في المشاركة ضمن صفوف ''الثورة العرابية''، حتى أن ''فتح الله'' كان من أحد خطبائها، لبراعته في الإلقاء وتمكنه من اللغة العربية وبيانها، حتى أنه كان وقتها مدرسًا بـ''المدرسة التجهيزية'' التابعة لـ''نظارة المعارف''.
انهزمت الثورة وتمكن الإنجليز من بر مصر، وصدرت الأوامر بملاحقة المشاركين بالثورة العرابية إيذانًا بمحاكمة ناشطيهم، وفصل ''فتح الله صبري'' من وظيفته، ليقرر بعدها تغيير اسمه إلى ''أحمد فتحي'' ويلتحق بمدرسة الألسن العليا عام 1883، ويتقن فيها اللغتين الفرنسية والإنجليزية، ومن ثم يسافر لأوروبا لدراسة القانون، ويعود في 1887 محاميًا ويعين بالقضاء، ويتدرج فيه حتى يصبح رئيسًا للمحاكم الأهلية، ثم وكيلًا لـ''نظارة الحقانية''، وتبدأ دائرة الربط بينه وبين سلطات الاحتلال.
بدأ ''فتحي بك'' في الانخراط في العمل المجتمعي، وكان داعيًا بارزًا للتنوير، وظهرت له أعمال متميزة في الترجمة والأدب والقانون على حد سواء، فمن كتبه التي ترجمها كتابي ''سر تطور الأمم روح الاجتماع- جوستاف لوبون''، ''الإسلام خواطر وسوانح- هنري ديكستري''، ''أصول الشرائع- جيرميه نبتام''، فضلًا عن مؤلفاته الشخصية في مجال القانون أشهرها ''المحاماة، شرح القانون المدني، رسائل في القانون'' ومجموعة مقالات في الأدب والاجتماع بعنوان ''الآثار الفتحية''، كما ساهم مع ''أحمد لطفي بيك السيد'' في إنشاء جريدة ''الجريدة''، ووضع نظامًا للمعاهد الأزهرية الدينية، وكان عضوًا مؤسسًا في ''الجمعية الخيرية الإسلامية.
علاقة صداقة نشأت بينه وبين المندوب السامي البريطاني ''اللورد كرومر''، واتخذ ''فتحي'' طريقًا يدعو للاستفادة من الإنجليز على أرض مصر إن لم تستطع الحركات المقاومة إخراجهم، وبعد يوم (14 يونيو 1906) الشهير، جاء ''أحمد فتحي بك زغلول'' قاضيًا للمحكمة المشكلة لمعاقبة المتهمين من أهالي قرية ''دنشواي''، بعد أن سقط أحد الضباط الإنجليز ''كابتن بول'' جراء ''ضربة شمس''، واشتعلت النيران في أجران القمح التابعة للفلاحين، وسيق للمحاكمة العشرات والعشرات من شباب ورجال القرية.
تشكلت المحكمة في 20 يونيو بأمر من من ''بطرس باشا غالي- وزير الحقانية بالنيابة وبرئاسته شخصية، وعضوية كل من ''أحمد فتحي بيك زغلول- رئيس محكمة مصر الابتدائية''، و''مستر هبتر- نائب المستشار القضائي''، و''مستر بوند- وكيل محكمة الاستئناف الأهلية''، والقائمقام ''لي هايدلي- القائم بأعمال المحاماة والقضاء بالجيش الإنجليزي بمصر'' ، و''كمال الهلباوي'' هو ''محامي الإدعاء- وكيل النيابة''، ويكون انعقادها بعد أربعة أيام (24 يونيو) بشبين الكوم.
بدون تحقيقات، خط ''فتحي'' حيثيات الحكم بيديه، بينما جاءت كلمات ''الهلباوي'' لتصب جام غضبها على الفلاحين، وكيف ذهب بهم الإرهاب لقتل أحد ضباط الإنجليز، وسرعان ما قضت المحكمة في 27 يونيو بإعدام ''على حسن على محفوظ، ويوسف حسن سليم، والسيد عيسى سالم، ومحمد درويش زهران''، وتم تنفيذ الحكم علنًا في دنشواي، فيما تم الحكم على 2 بالأشغال الشاقة المؤبدة والحكم على آخر بالأشغال 15 سنة ثم حكم بالسجن 7 سنوات على 6 متهمين مع معاقبة كل منهم بخمسين جلدة علنًا، ونفذ الحكم في الثانية ظهر 28 يونيو، على مرأى ومسمع من أهالي القرية.
في العام التالي (1907)، تمت ترقية ''أحمد فتحي زغلول'' لمنصب وكيل وزارة الحقانية، وحصل على رتبة ''الباشوية''، وفي حفل الترقية الذي أقامه له زملائه وبعض شخصيات المجتمع بفندق ''شيبرد''، دُعي أمير الشعراء ''أحمد باشا شوقي'' لإلقاء أبيات لتكريم ''فتحي زغلول''، فرفض المجيئ وأرسل مظروفًا مغلقًا ليُقرأ على الجمع الحاضر، كتب فيه: ''خذوا حبال مشنوقٍ بغير جريرةٍ وسروال مجلودٍ، وقيد سجين، ولا تعرضوا شعري عليه، فحسبه من الشعر حكمٌ خطه بيمين، ولا تقرأوه في ''شبرد'' بل اقرأوا على ملأٍ في دنشواي حزين''، ليوصم ''فتحي والهلباوي'' بعدها بـ''جلاد دنشواي''.