كتبت - نوريهان سيف الدين:
جسد نحيل مقعد وروح ثائرة تجوب نفوس سكان الوطن، كرسي متحرك صار رمزا، ولحية بيضاء كثة تزيد وجهه بها، شال يغطي الرأس وعلم ''حركة المقاومة'' يزين الصدر، واصابع اضناها عدم الحراك ثبتت ''سبابتها'' لترفع ''الشهادة'' أينما حلت وذهبت، ''صلاة الفجر'' كانت أخر أعماله، والنهاية كانت بواسطة ''أباتشي''.
10 سنوات على مقتل الشيخ الشهيد ''أحمد يس''، شهرة طاغية لم الاغتيال وحده سببها، فهذا الجسد المقعد حرك ثورة الانتفاضة بصدور سائر الفلسطينيين والعرب، واستحق أن تنحنى أمامه رؤوس القادة تسقيه ''شربة ماء''، ولم يجد أدنى غضاضة أن تنزع طاقيته و''شاله الأبيض'' من فوق رأسه، ليصب معاونه الماء أمام وجهه، بينما زميله يقوم بـ''توضية'' الشيخ استعدادا أن يؤمهم في إحدى الصلوات.
من ''منبر الجامع العباسي'' بقطاع غزة بدأ النضال، بيده طبشور أبيض يعلم به تلاميذه قواعد اللغة الغربية، وبالأخرى يجمع التبرعات لأسر الشهداء والأسرى، قدرة خطابية تجلت في إلهاب حماسة الشباب بعد ''نكسة يونيو 67'' واحتلال الجزء الأكبر من فلسطين، ورغم جلوسه على كرسي متحرك لا يقوى على حراك قيد أنملة، إلا أنه اعتقل وحوكم وصدر الحكم بسجنه 13 سنة عام 1983، وذلك لحيازة أسلحة والتخطيط لأعمال ارهابية، إلا انه يفرج عنه بعد سنتين في صفقة لتبادل الأسرى أجرتها ''الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين''.
''معلم العربية'' الشاب المولود في 28 يوتية 1926 بعسقلان الفلسطينية، والمدون في سجلات المواليد بإسم ''أحمد اسماعيل يس''،إلتحق بمدرسة الجورة الإبتدائية، ولم تتجاوز سني عمره الـ12 حين شاهد بعينه ''نكبة فلسطين''، وهُجرَت اسرته لقطاع غزة، وترك الدراسة لعام وأكثر ليعول اسرته المكونة من سبعة أفراد، ويعمل بائعا في إحدى مطاعم ''الفول''، كادت حياته أن تنتهي إثر ''مباراة مصارعة'' في سن الـ16، كسرت فيها عنقه ووضعت في جبيرة جبس لفترة طويلة، اصيب بعدها بشلل رباعي، كرس بعدها حياته في طلب العلوم الشرعية، ووفد للقاهرة للدراسة بالأزهر الشريف، ليعود معلما للعربية في مدرسة تابعة لوكالة غوث اللاجئين بقطاع غزة، كان خلالها ناشطا في حركات المقاومة، لكن شهرته ضجت ودوت إثر اندلاع الانتفاضة الثانية 1987، لتتزامن وتأسيس حركة المقاومة الإسلامية ''حماس''.
رغم مشاركته في المظاهرات المناهضة للعدوان الثلاثي على مصر ووجود قوة دولية تشرف على قطاع غزة، مطالبا ورفاقه بعودتها للسيادة المصرية، إلا أن''الانتماء لجماعة الإخوان'' كانت تهمته، ذلك حين ألقت السلطات المصرية المشرفة على القطاع القبض عليه، وكان هذا إبان فترة حكم ''عبدالناصر''، وحُبس ''يس'' بداخل زنزانة انفرادية لشهر ويزيد، ليفرج عنه بعدها لعدم ثبوت إنتمائه للإخوان، إلا أنه خلال فترة رئاسته للمجمع الإسلامي بغزة كان آمن بأفكار الإخوان المسلمين على نسق مؤسسها ''البنا''، متبنيا رؤية إن الإسلام ''مصحف وسيف''.
''انتفاضة المساجد''.. تلك الصفة المطلقة على الانتفاضة الفلسطينية الثانية، والتي كانت لحركة حماس دورا بارزا فيها، تلك الحركة التي أسسها ''الشيخ يس'' مع المؤمنين بفكر الإخوان المسلمين بالقطاع، منتهجين نهج الجهاد والمقاومة، واعتبر ''الشيخ يس'' زعيما روحيا للحركة وأول رئيس لها،
سنوات أمضاها ''الشيخ المجاهد'' يجمع شتات الفلسطينيين، يجمع كلمة الساسة بين حركته والسلطة الفلسطينية، يسعى لعمليات تبادل الأسرى في الداخل والخارج، يتعرض للاعتقال ذو الشروط القاسية، يصاب بأمراض مزمنة ويكف البصر بإحدى عينيه وتكاد الأخرى أن تلحق بها، يوضع تحت الإقامة الجبرية بمنزله، ويصبح منزله قبلة المجاهدين الفلسطينيين، إلى أن تحيط شرطة الاحتلال منزله في يونيو 2002 بعد أن أذاقتهم العمليات الاستشهادية الفلسطينية الرعب ومرار فقدان الأمن.
فجر 22 مارس 2004.. مشهد النهاية مكتوب بعناية، فهو المتمني طيلة حياته أن يمون بإيدي أعدائه، ورغم محاولة اغتيال سابقة بائت بالفشل، إلا أن هذه المرة الهدف لا يخيب، آذان الفجر يعقبه ابتهالات ثم إقامة الصلاة وختامها، يحمله رفاقه على كرسيه المتحرك ويهمون بالخروج من المسجد، ترصده أجهزة الرادار، وتطلق عليه قذيفة من طائرة ''أباتشي'' تريده قتيلا في الحال، وتظهر وكالات الأنباء صورة الشيخ القتيل وقد انفجرت رأسه، ورفعت سبابته في اللحظة الأخيرة متمتما بالشهادة، بعد أن سبق ورفع ''ساقا فوق ساق'' في وجه معتقليه، في تحد بالغ لشيخ ''مشلول'' جسد إرادته في ''لقطة فوتوغرافية'' يكيد فيها عدوا اغتصب ارضه.