كتبت-إشراق أحمد:
آثار التفجير لم تزل بادية، سور حديدي طُويت أجزائه، عمود إنارة سقط أرضًا، نوافذ مهشمة الزجاج يُبصرها المار وإن حل الظلام، لافتة محطمة على الرصيف بدت معالم كلماتها ''متحف الفن الإسلامي''، مبنى تُجرى عمليات ترميمه على قدم وساق، يحيط به سور حديدي أصفر اللون، يعلوه على امتداده أعلام مصرية، بينما تشير لافتة تصدرت الواجهة المُسدل عليها أغطية خضراء لعمل ''المقاولون العرب'' على إعادة المبنى ''عشانك يا مصر''.
''مديرية أمن القاهرة'' اختلف المشهد حول محيطها بعد أحداث التفجير التي وقعت لها في الرابع والعشرين من يناير الماضي، ليس فقط في الطريق المواجه لمبناها الذي عادت له حركة السير في 11 فبراير الماضي بعد غلق تام، تمرق السيارات بين ''المتاريس'' الموضوعة بالمساحة المخصصة للعبور لغلق جانب الطريق المجاور للمديرية، غير أن التواجد الأمني من رجال ''مباحث'' وأفراد وضباط شرطة زاد بشكل لافت وإن لم يعد كما كان قبل ثلاثة أعوام، على حد قول ''عبد الله بهجت'' صاحب محل ''خشب''، جوار مبنى المديرية.
رغم حركة مرور السيارات غير أن بعض السائقين يرفض التوجه لطريق المديرية، ليس خوفًا من الإجراءات الأمنية؛ لكن تفاديًا للزحام المتجلي مع ظهور المبنى للقادم من اتجاه ''السيدة زينب''، والانتظار في صف السيارات المار ببطيء نظرًا لوجود ''ملفات'' سير، فضلًا عن الحواجز المصطف جوارها رجال الأمن.
طبيعة منطقة ''باب الخلق'' المتواجد بها مقر ''المديرية'' كأحد المناطق الشعبية، كانت مصدر ''الآمان'' بالنسبة لسكانها وليس فقط جيرتهم للأمن، لم يكن التوجس يعرف طريقه حتى أيام الثورة إلى قلوب كثير من القاطنين؛ لحماية أهل المنطقة لها، غير أن الخوف أصبح رفيق ''عُمر محمد'' كل جمعة، الشاب العشريني المساند لوالده في محل بيع الآثاث بالجهة المقابلة للمبنى الأمني، لم يشهد أصعب من يوم التفجير رغم المسافة التي تفصل منزل أسرته ومقر متجرهم، والمقدرة بحوالي 200 متر.
''اللي إحنا فيه بقى يخوف'' تسلل هذا الشعور لنفس الشاب منذ أن استيقظ فزعًا لحظة التفجير ''السرير اترفع بيا قمت لاقيت الدنيا بايظة''، في السابق كانت جيرة ''المديرية'' بالنسبة للشاب ''حماية'' أما ''دلوقتي مابقاش في آمان''.
تأثير حادث تفجير مديرية الأمن على محيطه ذي السمت التجاري لبيع وتصنيع الأثاث والأخشاب، كان أبسطه على أبواب المحال التي تصدعت وإن كانت تقع على مسافة ليست قريبة من المبنى لكن القنبلة المقدر وزنها بنصف طن من المتفجرات، كفيلة بفعل ذلك.
''المشكلة مش الفلوس لكن هل اللي عملوا كده حسوا أنهم ضروا ناس كتير مش مجرد جهاز الأمن''، تلك الفكرة المؤرقة لـ''إبراهيم محمد'' صاحب ورش صناعة ''أثاث'' بالجهة المقابلة لمديرية الأمن في شارع ''دار الكتب'' رغم تضرره كصاحب عمل وأحد سكان المنطقة القدامى الرافض لتركها مهما كان السبب، لإيمانه بأن المسألة تتعلق بـ''الانتماء'' كما يقينه أن ''الوجيعة ميحسش بها غير صاحبها''.
صدمة الرجل الستيني في أن ''جهاز أمني زي ده مايبقاش فيه كاميرات مراقبة تحمي المكان'' أفقدته آخر أمل في الشعور بالأمان الذي يوقن أنه ''بإيد ربنا'' كما أن تجنب وتوقع الخطر واجب، الضرر لم يكن مادي للرجل بل معنوي، بعد رجفة الفزع التي انتابته وأهل بيته خلاف إصابته في الرأس جراء تهشم زجاج النوافذ. 17 يوم ظل الرجل الستيني وأسرته يحتمون من صقيع الشتاء بـ''كراتين بتاعة التلاجات'' لأن ''إزاز الشبابيك كله طار وقت التفجير''، حالة غربة لم يجدها حتى في أحلك الأوقات التي شهدتها البلاد وقت ''النكسة'' حينها ''الناس كانت واقفة مع بعضها لكن دلوقتي لأ''، ليؤكد لنفسه وكل من حوله أن ''إحنا ناقصنا الإحساس ببعض مش الآمان''.
حاملًا مع أحد العمال أحد الأرائك خشبية الصنع لوضعها بالجهة المقابلة للمحل، هكذا يفعل ''محمد'' بين الحين والآخر، بينما يغلب جلوسه أمام ورشته، ما تخيل أن يصل الحال لذلك، مازالت أحوال شقته على حالها إلا بقليل من الإصلاحات، فالأولوية كانت لباب المحل المتضرر، خاصة أن المنزل لم تعد مشكلته فقط النوافذ المنخلعة واستبدالها بأخرى بل أساس العقار ذاته تأثر وبحاجة للتنكيس في حين تخلي صاحبه عن الجيران بدعوى ''هو أنا اللي عملت التفجير ده كان عند الحكومة''، والمقابل تجاهل لشكوى آل ''محمد'' وغيره من الجيران، حسبما قالت ''زينب'' زوجته.
''حاسة إني ضايعة'' بدموع تنهمر بين الحين والآخر كلما تذكرت تلك الساعة، تحمد ربها على اللحظة التي تأخرت بها عن التوجه نحو باب الغرفة بعد شعورها وسماعها الصوت الشديد الذي ظنته ابنتها ''زلزال''، فخروجها من الحجرة المقابل لها الحمام ما كان يعني سوى إصابة بالغة للسيدة، تطاير الزجاج المهشم الذي شاهدته ''زينب'' فور انبطاحها أرضًا وأسرتها كان كفيل بذلك.
التفكير فيما قبل حادث التفجير ما تنشغل به كثيرًا السيدة الستينية كحال أغلب أهالي المنطقة، فطالما كان العمل مستمر وكذلك حركة السير تواجد ''الآمان''، ولحظة توقفه هى مؤشر انعدامه بالنسبة لهم.
''بقيت أخاف أركب تاكسي ولا أتوبيس ينفجر بيا'' أصبح ''محمد'' في حالة قلق شديدة بعد حادث التفجير لم يشهدها من قبل رغم امتناعه عن التردد على النادي مصطحبًا أبنائه الاثنين كل جمعة من الأسبوع كما كان يفعل قبل أعوام ثلاثة، يرى الرجل الستيني أن الأمن لم يمتلك القوة اللازمة، بعد وأن الحادث ما كان إلا ''اختبار أمني'' فشل به، تلك القوى –المعتدين- لا يجب لها أن تصل أصابعها إلى الناس.
''درب السعادة'' لا يحمل من اسمه نصيب، شارع، بل ''زقاق'' لا يفصله عن مديرية الأمن سوى حائط مبناها، عليه تتواجد لافتات إحداها بمدخل الطريق والثانية أسفل فرد الأمن المتواجد بـبرج المراقبة أعلى السور، وجوه غلب عليها البؤس، انظار الجالسين منها على أعتاب محالهم صوب حائط المديرية، وآخرين يحملون الأخشاب إلى العربات، فالمحال على امتداد السور يغلب عليها العمل بتلك الصناعة، لا يأتنسون في غياب الزبائن وصوت نقل الخشب إلا بأصوات زائري المحتجزين بالمبنى الذي لازالت أثار التفجير بادية عليه، رغم عدم اكتراثهم بها في الوقت ذاته.
''بهجت'' صاحب أحد محال الخشب يبتعد مسكنه عن المديرية قرابة 200 متر في ''حوش الشرقاوي''، وعمله يواجهه مبناها في ذلك ''الدرب''، لذلك كان أول من هرع لمحله فور سماعه صوت الانفجار. رغم هدوء ملامحه وكلماته لكن الضيق يصاحبه، يخرجه في نفث دخان سيجارة تلو الأخرى ''كان في شغل وآمان''، بالسابق كان يشعر ''بهجت'' بهذا ليس فقط لوجود مبنى أمني جواره لكن لأن ''الأمان بأهل المنطقة''، فرغم التشديد الأمني الذي شهدته المنطقة بعد التفجير لم يجد ''حماية لغاية دلوقتي واللي يقول غير كده يبقى كداب''.
''لما هم مش متوقعين حاجة زي التفجير كده تحصل يبقى فين الحكومة'' تأثُر ''بهجت'' ليس فقط في تلف باب محله لكن حركة البيع والشراء التي قلت بعد الحادث لدرجة جعلته يوفر بالكاد راتب العاملين معه ''الناس خايفة.. بيقولو نروح ليه منطقة حصل فيها تفجير، وإيه اللي يضمن ما يحصلش حاجة تاني، أدفع عشرة جنية زيادة في مكان تاني وأضمن نفسي''.
''إحنا اللي أتأثرنا'' ما من صاحب رزق بمحيط المديرية سواء جمع بين سكن المنطقة أو مرافقتها لساعات عمله بها إلا وسارع بتلك الكلمات، فالآمان الذي طالما ناشدوه في حركة البيع والشراء بالمنطقة، والتعاملات بين أهلها، لم تعد هي الآخرى كما كل شيء ''بقينا نخاف من بعضينا''، وتجاهل ''الغلابة'' هو ما أدى لذلك في نظر ''طارق صلاح'' صاحب مقهى بشارع ''دار الكتب'' خلف مبنى ''متحف الفن الإسلامي'' بالجهة المقابلة لمديرية الأمن.
وقف ''صلاح'' مع ''الصنايعية'' للمرة الثالثة لتغيير باب المقهى المتهتك بفعل التفجير، لم يملك الرجل الأربعيني حق إصلاحه فاكتفى بترميمه في السابق متكبدًا بفعلته تلك حتى الآن، حسبما قال، ما يقرب من 1000 جنيه، المقهى مع موقعه بين كثير من الورش إلا أنه رغم حلول الليل فارغ من مرتاديه إلا القليل، الحادث أثر على حال أب الثلاثة أبناء، فبدا الضيق بكلماته ''المديرية اللي بتتبني دي من دمنا إحنا ومع ذلك مافيش حد بيسأل في الغلابة اللي زينا''.
''الشرطة لغاية النهاردة ظالمة'' ما تردد الرجل الساكن بمنطقة ''مصر القديمة'' الوارث للمقهى عن أبيه، في قولها متذكرًا مشهد اليوم التالي للتفجير حينما قامت قوات الأمن رغم معرفتها الجيدة لأهالي المنطقة بحكم ''الجيرة'' حسب قول ''صلاح'' بـ''أخد تلات أربع الشارع عشان يتأكدوا من هويتهم''، الموقف بدا طبيعيًا لصاحب المقهى خاصة أن الأهالي ''عايزين يقفوا جنب الشرطة'' لكن المعاملة التي بدرت أثناء ذلك أثارت حفيظة الرجل وزاد الأمر صدمة له بحديث ودي دار بينه وأحد أفراد الأمن عن ذلك فكان رده ''إحنا عايزين الناس تشتكي عشان الوزير يعرف إننا شغالين''.