كتبت – إشراق أحمد ودعاء الفولي:
يعلو صوت الانفجار، تنتفض النفوس، تشيح الوجوه عن الخلف، وتتحرك الأرجل بخطوات مسرعة للأمام على غير هدى، تتجلى الأتربة، يمر العابرون، يهديء السائق سرعته، بينما يتوقف السائر، تساؤل يلقيه البعض ''هو في إيه؟''، والأكثر مثبتة نظراته نحو العمائر المدك بعضها دكًا، والمنهار واجهته في انتظار مساواته بالأرض، قرب جدار مستشفى القوات المسلحة ارتكنت المدرعات العسكرية، ''قوات حماية المواطنين'' كتب على جانبها، أفراد أمن تصدرت الشارع خلف ''متاريس'' احتجزت الوقوف وراءها، في حين بدا البعض محايدًا عن المشهد رغم عيونه الزائغة بين البلدوز المستمر في اختراق أساس العقارات.
ما بين جلوس على الأرض، ووقوف، غلب عليه النساء، تتبين هويتهم دون سؤال؛ الدمع يترقرق في عين بعضهم، وأخرون يبادر الانفعال منهم بمجرد طرق باب الحديث.
لا يفصلها عنه سوى عمارتين جاري إزالتهما، أشارت ''زينب إسماعيل'' إلى العقار المنهار لتوه ضمن أكثر من 20 عقارا تنتظر الهدم ''كنا ساكنين هنا''، 9 أبناء وأحفاد تحصيهم على يديها ''ياسر عنده 3 وبنتي دي عندها 2''. عائلة ''خلاف''، تسكن المنطقة منذ ما يقرب من 80 عام حسبما قالت السيدة السبعينية ''حمايا كان فيها واتجوزت معاه''، السادسة صباح يوم السبت 15 مارس، تفاجأت العائلة التي وضعت كل ما تملك حسب تأكيد الأم وأبناءها المتواجدين حولها، بقوات الأمن تخلي كل الماكثين بالعقارات، وتزيح من أمامها كل من يعترض، تكشف السيدة المسنة عن يديها، آثار شد وجذب، لم تتحملها، تشير بإصبعها إلى أثر آخر بجبهتها ''قلت لهم حرام عليكم راح عسكري ضربني بالعصاية اللي معاه''.
الحظ السعيد أنقذ المهندس ''كمال عبد الله'' من شراء قطعة أرض مساحتها 500 متر بمنطقة المعادي، خلف المحكمة الدستورية ''روحت من كام يوم سألت وعرفت إن فيه أماكن فاضية''، محاولات حثيثة منه لمعرفة مدى قانونية الأراضي ''سألت معارف في الداخلية قالولي إن الأرض بتاعة الحكومة وعليها مشاكل''، لم يكذب المهندس خبرًا ''خفت أكتر لما عرفت المشاكل وقررت مشتريش''، ليفاجأ عقب ذلك بيومين بإخلاء الأراضي من السكان لهدمها.
''عايزين نعمل حاجة لولادنا يعني يطلعوا يسرقوا'' قالتها ''مبروكة خلاف'' أحد أبناء العائلة التي تسكن عشش على شارع ''محمود درويش'' قرب مجمع شرطة دار السلام، أربعين عامًا قضتها بالمنطقة ''ياما تعبنا في الأرض هنا'' مؤكدة أنهم كانوا يتولون زراعتها، رأوا مياه النهر الذي أصبحت العقارات والمباني تفصلهم عنه ''كنا قاعدين في عشش فلما ننصف نفسنا يجوا يهدوها لنا''، قبل خمس سنوات قررت العائلة البناء، لما جاءهم المال وضعوه في عقارهم، رأوه يعلوا، انتظروا اكتمال ''تشطيبه'' للإقامه به.
كان الجمع مرفوع الأعين للهدد المتساقط أمامهم، تقف بينهم بوجهها الأسمر والجلباب الأسود، وبحة صوتها الغاضبة ''نقول يا مين؟ الخراب على حساب مين''، لم تجد كلمات مناسبة تعبيرًا عن شقة ابنها الأكبر ''أحمد'' التي هُدمت مع البقية، حالة الغضب التي انتابت السيدة الخمسينية جعلت المارة يتجمعون ''هو إزاي الحكومة تضرب الناس كدة؟''، تشير بيديها إلى ''نورا خلاف'' جارتها التي ثبتت يدها المتورمة بوضع معين ''انا اتضربت امبارح من القوات وهما جايين يخرجونا من البيت''، كذلك قالت.
ولدت ''نورا'' وإخوتها بذلك المكان على حد قولها، عشش جمعتهم بجانب العمارات ''احنا معانا ورق يثبت مش بنتجنى على حد''، قبل بناء العمارات كانت العشش التي يسكنوا بها من طين ''وبعدين جت المطر بهدلتنا فبنيناها طوب وقررنا وقتها نبدأ نبني العمارات''، السيدة الثلاثينية فوجئت بالقوات تهدم المنازل ''سمعت دوشة قلت أشوف في ايه لقيت عساكر وأمن بيقولوا هيهدوا المكان''، اعترضت على تصرف القوات، فكانت فيمن اُصيبوا جراء تعامل الشرطة ''أخدت خرطوش في إيدي وودوني مستشفى المبرة''، تنتظر الحل مع أبناءها الأربعة دون زوج يعولها ''هفضل انا وولادي في الشارع لحد ما نعرف آخرتها ايه''.
''صلاح'' كان بجانبها يمتلئ ظهره بطلقات الخرطوش، ووجه ''محمد'' تصدرت وجنته كذلك أثر طلقة، الغضب بادي على أبناء ''خلاف''؛ ''كنا بنحميهم وقت الثورة'' قالها ''صلاح'' الذي تلقى في الثامن والعشرين من يناير 2011 طلقة بعينه اليسري ''وقت ما كنا بنحمي القسم''، بينما كان الشاب العشريني فيمن من حاولوا الحديث مع قوات الأمن لعل ذلك يحيدهم عن فعلتهم ''مالحقناش نتكلم افتكرونا بنتجمهر راح الضابط شتمنا وسبنا واضرب علينا قنابل الغاز والخرطوش'' حسبما قال ''محمد''.
''معنديش مكان تاني أروحه'' حال ''عزة عبد السلام'' كغيرها من سكان العمارات الثلاث المنتظر إزالتها بالشارع الرئيسي ''مصر حلوان'' لكن الخبر اليقين لم يأت بعد، فلا زال بعض السكان بها، عمل السيدة الثلاثينية بالمحاماة جعلها على يقين من قانونية البناء ''بندفع الكهرباء والمياه وبناخد وصلات بده''.
حول مروحة وُضعت بوسط الحجرة ذات الشرفة المطلة على الشارع الرئيس، أخذت ''ريهام رمضان'' ذات الثمانية أعوام مع أختاها الكبرى ''ياسمين'' والصغرى ''مريم'' تطوف مغنية بما تحفظ قبل شهرين مع انتقالهم للسكن الجديد، ابتسامة لا تفارق الصغيرة رغم دموع والدتها، والهم الذي أصابها.
ظلام خيم على الشقة، افترشت الأسرة منتصف الصالة أمام نافذة تلقى بعض الضوء جلسوا يتناولون الغذاء، الأبناء الأربعة، والجدة وأخت للزوج والزوجة جاءوا لمواساة ربة الأسرة ''من إمبارح لا بتاكل ولا بتنام''، انقطعت الكهرباء صباح اليوم التالي لتنفيذ الإزالة، أغلقت عائلة ''رمضان أحمد'' الباب عليها، الخوف يملأ الأبوين فالصغار لم يعو بعد الأمر، بيع السكن القديم لسداد تكلفة الجديد وتجهيزه كان الوسيلة الوحيدة.
قبل أن يكتمل تجهيز جميع شقق العمارة الكائنة بالشارع، انتقلت الأسرة حتى باتت الوحيدة التي تسكن بشقة افترشها أثاثها، ما كان الحلم أكثر من هذا للوالد العامل بمطعم قريب من المنطقة، ليدخر كل ''مليم'' ويدقق السؤال قبل أن يتخذ خطوة البيع ''روحنا وسألنا الحي قالوا لنا الورق سليم وبقالنا شهرين بندفع الكهربا والمياه''، انطفأ نور الفرحة في أعين أسرة ''رمضان'' خوفًا من إزالة العقار، تركض الصغيرة ''مريم'' في الظلام فتصطدم بشيء، تبكي، تحملها والدتها، وتحاول قريبتهم التخفيف عن الطفلة والوالدة.
بنفس العمارة وفي طابق مختلف، لم تكتمل حدود شقة ''نادية لطفي'' رغم القروض التي استدانت و''فلوس لميناها من هنا وهنا'' للحصول على أمتار تأويها وأولادها الأربعة، ترحمها من الغرفة ''تحت بير السلم'' التي ملأتها مياه الصرف الصحي حسبما قالت، 6أشهر منذ كتبت السيدة الخمسينية عقد شقتها بالدور الأول من العقار، بينما قررت المكوث فور علمها بقرار الإزالة ''هنروح فين يجوا يهدوها علينا''.
ما يقرب من 20 شخص يشتركون في بناء عقار كلما توافرت الأموال استكملوا البناء، حسبما قال ''حسين أحمد'' أحد المشاركين في بناء عقار مؤكدًا أنهم يملكون الإثبات بأن تراخيص البناء صحيحة، لا تتجاوز حدود الشقة لمحدودي الحال 60 متر ''تلم أسرة من 7 أفراد'' وهذا ما رجاه ''محمود علي'' منذ هم للحصول على شقة قبل 5 أعوام بعد سنوات العمل ''شيال في محطة مصر''، غاضبًا كان ''علي'' لا يعلم المصير سوى ''اللي لميته ضيعته البلد'' متساءلًا ''لو كان مع شركة المعادي أوراق كانت قدمتها من زمان ولو الحكومة كانت شايفة أننا مخالفين سابتنا ليه كانت على الأقل وقعت علينا مخالفة''، مناشدًا رئيس الجمهورية التدخل لإنقاذ العشرات من الأسر.
''حلويات سورية'' لافتة اتخذت مكانها بين عقار جاري إزالته وأخر ينتظر دوره، داخله كان ''نديم'' شاب سوري إلى جانب أخرين شاب وسيدة، كل ما يملكونه واستطاعوا الفرار به من بلادهم وضعوه لشراء وتجهيز ذلك المحل ''60 ألف جنية الفلوس كلها صرفتها'' قالها الشاب العشريني بينما كل ما جاءه من كلمات ''طلع حاجتك بره لإما هنهد عليها''، انفلات الأعصاب سيطر على الشاب الآخر الذي رفض استكمال الحديث قائلًا بلكننة سورية ''ولا أي شي هيحصل كله بيكفي كلام جرايد راح تنهد والكل عم يتفرج''.
لم يبدُ على ''فتحي علبة'' أنه من سكان المنطقة، وقف لجانب محله المزمع إنهاءه بعد توقف العمل به ''دافع فيه مليون و200جنية''، مساحته التي تجاوزت 100 متر، والتشطيب، جعلتا حسرة الرجل الأربعيني مضاعفة ''كنت شاريه عشان يتعمل كافية وجيت لقيت الناس كلها بانية ومكنتش مدي خوانة''، منذ عدة أشهر عندما علم بخلو الأرض لم يفاصل في سعرها كثيرًا ''لأن المنطقة كويسة وفيها رجل''.
عندما بدأت عملية الإخلاء ''اتصل بيا صديق وقالي تعالى المنطقة عندكوا هتتهد''، لم يصدق ''قولتله إن المكان مليان عمارات والأوراق بتاعتنا سليمة فأكيد مش هيهدوها''، في اليوم التالي جاء ليجد الوضع متأزمًا ''لقيت العمال واقفين برة والظابط بيقولي خرجوا حاجتكوا.. هنهد''، الصدمة التي اعترت صاحب المحل لم تكن فقط بسبب تجهيزات المحل التي غرمته آلاف الجنيهات، بل لعدم معرفته كيف سيسترد أمواله ''كلمت صاحب الأرض قالي أنا كمان مليش دعوة''، لا يعلم من المخطيء ''بالشكل دة لئما هقتله أو هيقتلني، هنموت بعضنا عشان الفلوس''.
أسفل العقار الذي تعاقد قبل عام ونصف للحصول على شقة به مقابل 150 ألف، وقف ''فوزي أحمد'' ينتظر مع الوقوف، ينتظر المفاجأة والـ25 ألف جنية التي وضعها والباقي المقرر تسديده كان محور تفكير موظف مشيخة الأزهر وزوجته وأبناءه، لا يفصلهم عن مسكنهم القديم سوى شريط مترو الأنفاق، دون اندفاع توجه الرجل للمحكمة للتأكد من إثبات ملكية الأرض قبل أن يقدم على الشراء ليأتيه قرار المحكمة من النائب العام بصحة العقار وملكيته، الصمت غلب على الرجل الخمسيني والصدمة برؤية العقارات تنهار بدت عليه كحال الجميع من له مصاب والآخرين ممن تجمعوا ''للفرجة''.
اختلطت أصوات الهدم، مع نفير السيارات، وشاب بلحية خفيفة من آل العمارات، جاء صوته هادئًا على عكس البقية ''انتظروا الفترة الجاية ثورة الجياع''، بينما صرخت ''مبروكة'' داخل البناية المنتظر إزالتها ''الناس الغلابة مين ينجدها؟''. مع مغيب الشمس لم يخف ازدحام الجمع أمام الأرض إلا مع حركة مفاجئة هرولت جراءها الأقدام ''اقفل المحل بسرعة''، بينما اخترقت سيارات الأمن المركزي طريق المارة، لتختفي في لحظات، تاركة نساء ممسكة بأطفالهن، ورجال يجففوا دموعهم نتيجة الغاز المسيل للدموع.