كتبت - ندى سامي:
يسير متسكعًا بين الأروقة، يداعب الأحجار المترامية في الشارع فيركلها بقدمه غير مبالٍ بالعابرين، وعلى أحد الأرصفة يتلألأ في عينيه كتاب أصفرت أوراقه، وثنيت صفحاته، مرسوم عليه صورة عود، فيقترب الفتى الذي لم يتجاوز الخامسة عشر من بائع الكتب، ليعطيه ما حوته جيوبه من خمسة مليمات مقابل الكتاب. يهرول إلى منزله، ينكب عليه ليتعلم الموسيقى على عوده القديم مسترشدًا بالكتاب.. ''سيد درويش البحر'' باعث النهضة الموسيقية في مصر والوطن العربي.
بقامته القصيرة وشاربه الذي لم ينبت بعد، يقف مشمر عن ساعديه يناول ''المونة'' للنقاش، الذي يعمل كمساعد له ويغنى بصوته العذب، فتهدأ وطأة العمل ويطرب له العمال مندمجين في عملهم، لاحظ المقاول أن العمال ترتفع معنوياتهم ويزيد إنتاجهم إذا كان ''سيد'' يغني لهم، فطلب منه أن يتوقف عن العمل ويكتفي بالغناء للعمال.
على مقهى متواضع بحي ''كوم الدكة '' بالإسكندرية، يجلس درويش، وسط عدد من أهالي الحي المعجبين بصوته وعزفه، حاملاً عوده يغنى ما راق له من مقطوعات لكبار الفنانين، وأخرى ألفها بنفسه ولكنه كان يخشى أن يجهر بذلك فيكذبه الآخرون لصغر سنة، فكان ينسب الألحان لملحن ومغنى يُدعى ''إبراهيم القباني''، فقوبلت ألحانه بالاستحسان الكبير، وذاع صيته بالإسكندرية، وجاءت أخباره إلى القاهرة.
بينما يجلس متجليًا بعوده، سمعه الشيخ سلامة حجازي، الذي حضر إلى ''كوم الدكة'' بحثًا عن ذلك المطرب الشاب ''سيد درويش'' الذي ذاع صيته في الأوساط الفنية، طلب منه الحضور إلى القاهرة ليغني على مسرحه، فوقف على المسرح يغني من ألحانه، أغاني لم تكن مألوفة في ذلك الوقت، فلم يرضى عنه الجمهور وقابله بالصفير مطالبا إياه بالنزول من على خشبة المسرح، فظهر حجازي من خلف الستار قائلاً لجمهوره ''هذا الفتى هو عبقري المستقبل''.
يعود بعدها إلى الإسكندرية محملا بخيبة الأمل، يشرع ثانية في العمل، بناء تارة، وأخرى يعمل كاتب للحسابات في متجر للأثاث يملكه زوج أخته، بعد كساد بأروقة الفن جراء الحرب العالمية الأولى، وأثناء انشغاله بأعماله كان اسمه يتردد على بال الفنان جورج أبيض، الذى استدعاه لأنه صاحب اتجاه جديد في الفن، تعاقد معه ليلحن له أغانيه، يعود ''درويش'' إلى القاهرة مرة أخرى، غير أنه ذاق حصاد نجاحاته بعد انتشار ألحانه.
ستة سنوات قضاها ''درويش'' في زيارته لعاصمة المعز للمرة الثانية، ليضف زخرًا للموسيقى العربية، حيث لحن أكثر من 22 أوبريت، والفصل الأول من أول أوبرا شرع في تلحينها بعنوان ''كليوباترا ومارك انطونيو''، وخلال ترحاله من الإسكندرية للقاهرة ألف نحو عشر سيمفونيات عربية، و17 موشحًا على نمط جديد من الموسيقى، وحوالى 50 طقطوقة.
لحن الأناشيد وحرص على وصولها لطلاب المدارس لتكون في استقبال الزعيم سعد زغلول العائد من منفاه، قبل أن تفاجئه أزمة قلبية تودي بحياته، وفي وسط أهازيج الفرحة برجوع سعد زغلول، شيعت جنازته وسط صخب الاحتفال دون أن يشعر بموته أحد، لتأتى الذكرى الـ 122 على ميلاد فنان الشعب، وخادم الموسيقى كما كان يطلق عليه.