كتب- أحمد الليثي ومحمد منصور:
صلى الفجر في جماعة، بل كان إمامهم.. توجه ''عُمر'' صوب مستقره في سكينة، عدّل من غطاء رأسه الأحمر، ثم ألقى بجسده المتعب داخل ''الكمين''، رفاقه الأربعة في شبه راحة؛ فالساعة تدق الخامسة والنصف فجرًا، ضوء سيارة سوداء يقتحم الضباب ليضفي غموضًا على الأجواء، عمال شركة ''النشا والجلوكوز'' –المقابلة للكمين- يستعدون للعمل في بداية يوم جديد، سيارة نقل تقل بضاعة، يتابعها مشرف الأمن، يمسك ''عُمر'' كتاب الله ليتلو آياتٍ بينات، تتقدم السيارة السوداء بلوحة أرقام بيضاء شبه مطموسة، 4 هم، عقدوا العزم، 3 ملثمين، ورابعهم حضر خصيصا لتصوير الحدث.
يبدأ ''عُمر'' في التلاوة، فيرد عليه ''القاتل'' بالرصاص: ''الله أكبر''، تنفذ إلى الروح فتقتلعها، يفزع عمال الشركة، يختبأون، يحاول أحدهم الصراخ فتتحشرج الكلمات في حلقهِ، يحاول جندي آخر الاتصال من هاتفه عسى أن يأتي مجيبًا فيأتيه الرد من ملثم ثان لينهي أجله على الأرض، ينهمر الدم، يتبعه صوت دوي انفجار، يهلل ''القتلة'': ''تكبير''.. يفر الجناة ويأتي الخبر ''مقتل خمسة جنود في حادث إرهابي بكمين بمسطرد''.
''افتح لي الشنطة أشوفها الأول..مين يعلم فيها أية'' يقولها ''شعبان إبراهيم''، سايس جراج على بعد 500 متر من موقع الحادث، بوجه يملأه الذعر يحاول الرجل الخمسيني تجميع الكلمات ''الساعة خمسة ونص الفجر سمعنا صوت الفرقعة والرصاص وبعديها بشوية عرفنا الخبر''، فوضى عارمة تخيم على محيط المكان من ناحية كوبري مسطرد، فيما يحتل الصمت أرجاء الكمين وما يجاوره، سيارات إسعاف تتراص، رجال الداخلية يتوافدون مرتسمة على وجوههم علامات الدهشة، ''الشرطة العسكرية'' عبارة حمراء اللون مدونة بخط يدوي أعلى الكمين، أحجار مهشمة آثر التفجير، أغطية الرأس الحمراء -كذلك المنسال أرضا بجوار الضحايا، لطخها التراب، تطايرت في الجهة المقابلة للكمين، الحواجز الحديدية والبراميل المخصصة للتأمين لم تستطع الصمود أمام الهجوم، ''عندنا مصيبة'' يرددها ''نقيب'' من القوات المسلحة لأحد رفاقه، فُيقوي من عزمه ''دي مصيبة كل المصريين''..الكلاب البوليسية تمشط المكان، مع دقات التاسعة والربع صباحا يدوي صوت انفجار آخر، لقنبلة تركها الجناة، سيارات الشرطة العسكرية تؤمن سيارات الإسعاف ممهورة بعبارة ''قوات حماية المواطنين''، جثث الضحايا تتوالى داخل أكياس سوداء اللون، يمر الجثمان بجوار أصدقائه الجنود، يدخل ''دُفعة'' في نوبة بكاء، يحاول كتم صوته، فيغلبه الحزن، يربت على كتفه قائده ''ده شهيد''، فتزداد الوطأة، يهرع جندي آخر للملمة بقايا الرفاق الراحلون، مسك أغطية الرأس ومستندات الكمين، وينظر قبلهم في بؤس، رجال الإسعاف أنشط من في المكان، تظهر يد أحدهم مغطاة بالدماء، وآخر يفسح الطريق لخروج الجثامين، وثالث يدعو الله أن يرحم الموتى.
داخل مكتب الأمن بالشركة المصرية للنشا والجلوكوز، كان ''أحمد رزق'' مشرف وردية الأمن يراقب سيارة نقل تقل بضاعة عقب صلاة الفجر، قبل أن تتوقف سيارة ''لانسر سودا زجاجها فاميه''، أمام الكمين، ظنها معطلة، قبل أن يهبط منها أربعة أفراد ''كانوا 3 ملثمين ماسكين آلي والرابع معاه كاميرا ديجيتال بس مديني ضهره''، يحكي شاهد العيان عن تفاصيل الواقعة، متأثرا برحيل جيرانه الدائمون ''حاولت أشوف أرقام العربية بس اللوحة مكنتش باينة وخفت يتعرفوا عليا''، حاول ''رزق'' أن يصنع شيئا فما كان منه سوى الاختباء والاتصال برئيسه المباشر ''قولتله انجدنا كانت الساعة خمسة و37 دقيقة.. عشان دي مسئولية عليا والناس بتموت''، يؤكد مشرف الأمن أن الجناة قسموا أنفسهم لمجموعتين الأولى من شخصين دخلوا الكمين وثالث أمسك بسلاحه الألي بالخارج أما الرابع فظل يصور الحدث مطلقا تكبيراته في الفضاء ''الموضوع قعد من 5 إلى 6 دقايق وقعدوا يبدلوا مع بعض خزن السلاح''، يحاول ''رزق'' استيعاب ما جرى قبل أن تهبط الدموع من عينيه ''عُمر كان لسه مصلي معانا.. منهم لله إللي قتلوه''، فر ''القتلة'' في اتجاه ''أبو زعبل''، فانطلق ''رزق'' وزميليه في الوردية ''محمد فريد وعيد عبد الرحمن'' فوجدوا شنطة سوداء بالداخل ''خوفنا تكون فيها حاجة وبيقولوا هي دي القنبلة اللي فرقعت بعدين''.
''اتصلت بالشرطة قالولي أنت بتهرج ولا بتتكلم بجد.. أتأكد الأول'' يبدأ بها ''محمود الدوري'' مشرف الأمن العام بالشركة، ساردا تفاصيل تواصله مع قوات الأمن عقب علمه بوقوع الحادث، في تمام لسادسة صباحا حضر ''الدوري'' لقرب منزله ''كان نفسي يلحقوا الإرهابيين في أى كمين عشان حق العيال الغلابة اللي راحت''.
يقترب والد ''أحمد رمضان'' –أحد الضحايا- من الكمين فيبدأ صوته في التعالي ''حسرة قلبي عليك يا ابني''، المجند لذي قضى أربعة عشر شهرا، كان سند والده الصعيدي الذي حضر على وجه السرعة بملابس المنزل بعد سماعه الخبر المفجع.
بعيون تغرورق بالدموع، صنع اللون الأحمر حولها غشاء دمويا، يستجمع عم ''محمد السيد'' مشرف الأمن بشركة ''النشا والجلوكوز'' قواه، حضر في تمام السابعة والنصف، لم يزل غير مصدق لرحيل ''عُمر'' ورفاقه ''كان صايم من يومين وواد قريب من ربنا.. حسبي الله ونعم الوكيل في الي شوهوا صورة الإسلام''، يقولها بحرقة، يقلب بصرة بين موقع الكمين تارة ومستقر المسجد الذي كان يداوم عمر على الصلاة فيه تاررة أخرى ''أول ما قالولي الخبر لطمت على وشي من الصدمة''.
مع دقات الحادية عشر ظهرا، سمحت قوات الأمن للعامة بالدخول وكذلك رجال الإعلام والصحفيون بعدما حُملت جثامين الجنود إلى مستشفى ''القبة العسكري''، بينما لا يزال الجميع يبحث عن هوية القتلة وسط تواجد أمني مكثف من رجال الجيش والشرطة وترديدات العامة ''إحنا مش هنخلص من الإرهاب ولا أية؟''.