القاهرة - (مصراوي):
تتوقف الكاميرا عن التصوير في استراحة على إيقاع رشفات الشاي العراقي، أتطلع إلى وجه ''ثائر'' ممازحاً: إسمي عمر، ففي أي خانة تصنفني؟ يرد بنبرة ودودة، أنت صديق. لكني الححت في السؤال، مشيراً إلى ما يكنه بعض غلاة الشيعة من كراهية للخليفة الثاني عمر ابن الخطاب. ينطق ثائر الدراجي بما يعتقده هذه المرة '' لست من النواصب- أي الذين يناصبون العداء لآل بيت الرسول، وبالتالي أعاملك في الدنيا معاملة المسلمين، لكنك في الآخرة لن تحاسب كمسلم''.
العثور على ثائر الدراجي في رحلة الوثائقي ''أثير الكراهية'' كان الأكثر إثارة. هو أحد أكثر النشطاء الشيعة غلواً في العراق، صدرت بحقه مذكرة اعتقال ويعيش متخفياً. وهو الذي يعشق الإيقاع بعلماء السنة لإحراجهم على الهواء وتحقير رموزهم الدينية في برامجهم التليفزيونية المخصصة أصلاً للنيل من الشيعة. وهو أيضاً يدبر ''المقالب'' لسياسيين عراقيين، وفنانين مصريين مستخدماً اسماً بديلاً في كل مرة، وأنه صحفي من وكالة ''دراجي نيوز'' .
تمثلت الصعوبة الأولى في إقناعه هاتفياً أنني صحفي من البي بي سي وأني لا أدبر له '' مقلباً'' أو أسعى للايقاع به أمنيا. تمكنت من الوصول لهاتفه الدولي، لكنه لم يرد على اتصالات رقمي العراقي، استخدمت رقما بريطانيا من العراق. وحين رد قال لي أنه خارج العراق. أخبرته أنني أعرف أنه داخل العراق، فكان استفساره الثاني: كيف لي أن أصدقك؟ اقترحت عليه البحث عن إحدى صوري أو برامجي ثم نرتب حديثا بالفيديو عبر الإنترنت وقد كان.. ولتأمين التصوير، التقينا في أحد شوارع بغداد وتوجهنا لمنزل آمن لنا وله.
دعاة الكراهية
آراء ثائر الدراجي في السنة أو ''لعنه'' لرموزهم من الصحابة وزوجات الرسول لم تثر صدمتي. فعلى مدى ستة أشهر هي فترة إعداد الوثائقي ''أثير الكراهية'' التقيت كثيرين من دعاة الكراهية المحسوبين على المذهبين السني والشيعي. سمعت من دعاة سنة في مصر، التي توصف بأنها ''سنية مذهبا شيعية قلبا''، من اعتبر الشيعة ''كفار ينتمون لدين آخر''. وسمعت في لندن من يلعن السنة ورموزهم، وفي الكويت من يحذر من ''الشيعة المجوس''. لم يكن كل هذا حديث غرف مغلقة، لكنه خطاب تكفله حرية التعبير التي تعززت بفضل ما سمي بالربيع العربي، وصار له متحدثون وممولون.
من بين عشرات القنوات التليفزيونية التي رصدناها اخترنا ستا هي الأكثر تطرفا. السنية منها هي قناة صفا التي تبث من مصر، وشبكة وصال بلغاتها الست التي تبث من السعودية، وقناة الأنوار 2 الشيعية التي تبث من العراق، أما الثلاث الأخرى فتأتي عبر البحار، وهي قناة وصال فارسي السنية من لندن، وقناة فدك الشيعية من لندن وأهل البيت الشيعية من كاليفورنيا.
لكن أبواق الكراهية لا تعمل في فراغ فهي تحتاج لتجهيزات تكلف أموالاً طائلة، اذ أن تكاليف فضائية من هذا النوع تبلغ 450 ألف دولار سنويا على الأقل. فمن أين تأتي هذه القنوات بالمال؟ كان السؤال مرهقاً في مناقشاتي مع المسؤولين عن قناة ''صفا'' ، وترواحت الإجابات بين متبرعين من دول الخليج أو رجال أعمال عرب ''غيورين'' على دينهم. لكن أحداً لم يفصح عن هوية المالك الحقيقي، حتى عثرت على مذكرة داخلية تؤكد أن مالك القناة ورئيس مجلس إدارتها هو رجل أعمال كويتي يدعى خالد العصيمي.
كان على أن أتوجه للكويت للقائه، وهناك تكشف لي أن تمويل معظم هذه القنوات سنية وشيعية يأتي من الكويت، تلك الإمارة الصغيرة التي تعيش في بحر من الرفاه، وتتمتع بحريات سياسية وإعلامية يحسدها عليها جيرانها. امتنع ''العصيمي'' عن تسجيل أي مقابلة، وقدم إلى فندقي لحوار دون تسجيل. قال لي إن ''حلمه منذ الصغر كان أن يؤسس قناة تدافع عن السنة في وجه قنوات الشيعة''. سألته عن الدماء التي قد تراق بسبب التحريض المذهبي؟ قال : نحن نرد الهجوم ولا نبدأ به. لكن نشاط القناة لا يقتصر على الدفاع كما يقول العصيمي، فالكثير من برامجها يستخدم لغة هجومية ضد الشيعة ومعتقداتهم. كما أنها ورغم ما يقول العاملون فيها عن مديونيتها الكبيرة، تجمع الكثير من التبرعات، وتحقق مكاسب مالية أيضا منها على حد قول العصيمي الذي ينحدر من عائلة سياسية كبيرة لها مصالح تجارية ومالية واسعة في الكويت.
هنا لندن
ومن الكويت أيضا فر رجل الدين الشيعي ياسر الحبيب لاجئا إلى لندن في عام 2004 بعد خروجه من السجن الذي دخله في بلاده بعد إدانته بإهانة رموز دينية. في لندن أسس الحبيب هيئة خدام المهدي وذراعها الإعلامية قناة فدك، واشترت الهيئة مقراً في أحدى القرى القريبة من لندن بما يوازي 3 ملايين دولار. ورغم أن أنصاره قليلون في بريطانيا فهم يجاهرون باحتفالات مثيرة للجدل، منها احتفالات بموت السيدة عائشة ولعن الخلفاء الراشدين على الهواء وإعلان البراءة منهم.
ورغم موافقته بداية على التسجيل مع البرنامج إلا أنه تراجع عن موقفه وقدم المتحدث باسمه ماجد العبيدي للرد على اسئلتنا. تجمع فدك ما يصل إلى 70 الف دولار شهرياً من خارج بريطانيا وداخلها لتمويل عملياتها، قال لي الحبيب في ثاني لقاء معه إن ''كثيرا من الأثرياء الشيعة في الكويت يظهرون التقية لكنهم يدعمون قناته ونهجها''. يبرئ نفسه من أي دعوة للعنف معتبراً أن ما يقوله يندرج تحت البحث التاريخي الذي تكفله القوانين البريطانية.
الحبيب ليس حالة متفردة ، لكنها الأكثر اثارة، فالشركتان ''فدك وخدام المهدي'' تأسستا هنا بوصفهما نشاطاً خيرياً، ولأهداف منها الترويج للتسامح الديني وتوعية الجيل الشاب. وحين تحدثت إلى هيئة أوفكوم Ofcom ، المعنية بتنظيم الإعلام والاتصالات هنا، عن معرفتها بنشاط قناة فدك، قالت الهيئة إنها حققت في نشاطها في عام 2012 ولم تعثر على مخالفة لهم، ولكن – والكلام للهيئة- قدمت لهم إرشادات عن كيفية التعامل مع الرموز التي تعتبر حساسة بالنسبة لآخرين. لكن قواعد الهيئة واضحة في أن أي مادة تسبب العنف أو قد تؤدي لإثارة العنف تعتبر مخالفة.
ربما توفر قناة ''وصال فارسي'' التي تبث من لندن أيضاً دليلا على أن التحريض ليس له هوية أو وطن. فمؤسسها ومديرها أبو منتصر البلوشي، ناشط سني من عرب إيران، قدم إلى بريطانيا لاجئاً سياسياً مثل الحبيب، وأسس قناته بتبرعات من دول الخليج العربية، لدعم السنة في إيران. وإذا كان الحبيب يهاجم السنة ورموزهم فالبلوشي متخصص في إهانة الشيعة ومعتقداتهم. وتبقى في النهاية قاعدة ذهبية تتبعها قنوات التحريض: سوف تكسب تبرعات أكثر وجماهير أوسع كلما زاد الغلو وإهانة الآخر... فهل تستطيع الأجهزة الرقابية والحكومية التصدي لهذه الموجة دون الإضرار بحرية التعبير؟
''أثير الكراهية'' ، وثائقي من إنتاج بي بي سي، يبث على شاشة بي بي سي العربية يوم الاثنين المقبل 17 مارس 19.10 بتوقيت جرينتش.