كتبت- ندى سامي:
مشهد دامي تنخلع له القلوب من فرط الألم، في صباح لوث نقائه بالدماء وعكرت صفو زقزقت طيوره بالعويل والصياح، بعد العثور على جثث مصريين على شاطئ بشرق بنغازي بليبيا، لتتوالى بعدها الحوادث المماثلة، لتتفاقم بعدها الأزمة بين البلدين، فحاول ''مصراوي'' تفقد أوضاع الجالية الليبية على الأراضي المصرية.
بناية تصل طوابقها إلى الرقم عشرة، يتخلل كل طابق ثلاثة منازل، بشارع متفرع من شارع فيصل بالجيزة، تعلو فيه صيحات الباعة معلنين عن بضائعهم المتنوعة ويتخللها ضحكات الصغار الذين اتخذوا من الشارع ملعبا لهم. في هذه البناية تسكن أسرة ليبية الجنسية، مكونة من رب الأسرة حديث العهد بالأبوة وزوجته وطفلتهما -ذات الثلاثة أشهر- وأمه المريضة.
يجلس على أريكته بعيون ثاقبة، يتابع بشغف ما يحدث في ليبيا عبر قنوات الأخبار، لم يتحمل طوق البعد عن بلاده. ''أكرم محمد'' الشاب الثلاثيني، الذي اضطره مرض والدته للترحال عن موطنه الأصلي بحثًا عن علاج، فتراجع الخدمات الطبية بليبيا هو ما جعله يترك بلاده بين الحين والأخر ويقبع بمصر التي يحفظ شوارعها عن ظهر قلب، أملاً في الشفاء.
قبل عشرين عاما كانت المرة الأولى التي تطأ قدميه أرض مصر، بعد أن مرت والدته بأزمة قلبية حادة، فقرر أن يصطحبها، ويقيم بمصر التي اعتبرها بلده الثاني، وأوضح ''أكرم'' لـ ''مصراوي'' أنه رغم ثروات ليبيا، فالخدمات الصحية شديدة السوء على العكس بمصر حيث يتوافر بها الأطباء الماهرين.
''نحسبه شهيد، الله يرحمه'' كلمات بات يسمعها يوميًا، يرن هاتفه فتتسارع دقات قلبه وبين لهفة الاطمئنان على ذويه، وخوفه من الفراق يتردد في الرد، ويضيف الشاب الثلاثيني: ليبيا بعد الثورة على القذافي صارت غير آمنه على العيش بها، فانتشر بها السلاح في الأزقة والطرقات، وكذلك الفرق والجماعات المسلحة.
حصل على ماجيستير في المحاسبة، وطمح في الحصول على وظيفة حكومية يخدم بها بلاده، فوقفت ''الوسطة'' عاقبة في طريق حلمه، فأمل في تغير في بلاده، أسباب جعلت ''أكرم'' يهتف ضد نظام القذافي، مطالبا بفرصة عمل جيدة وحياة كريمة لعائلته، وعلاج لأمه ''حزنت على المصريين اللي ماتو في ليبيا كأنهم ولاد بلدي'' علق بها متأثرا على حوادث العثور على جثث مصريين بليبيا.
تجاعيد وجهها وشعرها الذى غطاه المشيب يزيدها وقارًا، بصوت متقطع يشوبه نبرة أسى، تدخل السيدة القعيدة ''أم أكرم'' كما يناجيها نجلها، في الحديث ''الشعب الليبي طول عمره بيحب المصريين''، قبل أن تضيف: الإرهاب هو اللي بيضرب البلاد العربية، والحال في ليبيا أشد سوءً''، معتبرة أن يد الغدر لا تفرق بين مصري وليبي، فالإرهابيون –حسب وصفها- يعيثون في البلاد قاصدين إثارة الرعب والقلق في النفوس.
''ملناش أمل غير في الجيش المصري هو اللي هيحرر البلاد العربية'' قالتها السيدة العجوز التي تجاوز عمرها الستين عام، وزادها الهم شيبًا على شيبها، متمنية تكوين جيش قوى يحمي بلادها وبلاد العرب من الإرهاب المتفشي الذي يزعم الحرب لنصرة الإسلام، حسب تعبيرها، مشيرة إلى أن المسلمين والمسيحيين يعيشون بسلام على الأراضي العربية منذ أجل بعيد، مستعينه بقوله تعالى ''لكم دينكم وليا دين''.
''الحرب في ليبيا علامة استفهام كبيرة'' قالها ''أكرم'' وهو يشير إلى شاشة التلفاز عالمه الصغير الذي يتطلع من خلاله على أخبار بلاده مستنكرا ما وصفه بدور الإعلام المشوه والمزيف للحقائق، والذي يلعب دور رئيسي في نشر الفتن والصراعات بين أبناء الوطن الواحد، فيما أضاف أن أصدقائه بليبيا يحثونه على الرجوع، لأن الوضع في مصر يعج بعدم الأمان وأن ليبيا أكثر استقرارًا، لكن ''أكرم'' وعائلته يرون العكس، وأن الإعلام المصري هو من يهول الأمور.
لافته كبيرة مرسوم عليها صورة لشيخ الشهداء والمجاهدين ''عمر المختار'' ومكتوب عليها ببنط كبير ''أحفاد المختار لشحن البضائع''، علقت على هامة مكتب لشحن البضائع بمنطقة غمرة بالقاهرة، تشد أنظار العابرين بألوانها الأحمر والأسود والأخضر، المعلنة عن علم ليبيا، يجلس بداخله ''عبد الكريم سليمان'' الشاب الليبي الجنسية.
يقبع على مقعده الوثير وسط حشد من العاملين، معطيًا تعليماته لهم، متحدثًا في هاتفه، مستنكرًا تأخير عربات النقل التي تقل البضائع، الشاب الذي نزح من ليبيا سعيًا وراء ''لقمة العيش''، بدء حياته العملية بمصر منذ عشرة سنوات، شغلته أحلامه عن العودة إلي بلاده، التى عشق ترابها ولكن تطلعه إلى مستقبل أفضل جعله يهبط عليها كزائر لأيام قلائل يزور فيها أهله ورفاقه، ويسترجع ذكرياته، لكن سرعان ما يعود إلى عمله الذي اعتاد أن يديره بنفسة ولا يعتمد على غيره.
معاشرته للمصريين لم تؤثر على لكنته الليبية الخالصة ''لما اتكلم ليبي هفضل فاكر أهلي وبلدي''، على مشارف عقده الرابع يعيش بمفرده بشقته التى تكمن بمنطقة حدائق الأهرام، فانشغاله بعمله جعله يتناسى حياته الاجتماعية.
اندلعت الثورة بليبيا، فترك ماله وعمله وذهب يأزر الثوار ضد نظام القذاقي القامع للحريات، متمنيًا مستقبل أفضل لبلاده، أوضح ''عبد الكريم'' أنه لم يكن يتوقع تلك السيناريو الأسوأ على الإطلاق الذي تعيشه بلاده، من قتل وسرقة وسلاح يبيعه الصغار في الطرقات ''في ليبيا الأرواح ببلاش''، مشيرًا إلى أن الإرهاب يسلط سوطه صوب أصحاب الديانة المسيحية دون الاهتمام إن كانوا يحملون الجنسية المصرية أو الليبية، مستطردًا أنها أفكار جهادية متطرفة لا تمثل سماحة الدين الإسلامي وتعليمات رسوله الكريم.
''بتقتلوا في إخواتكوا المسيحين في ليبيا'' يداعبه جاره المعتنق للمسيحية، بعد حوادث اغتيال المصريين بليبيا التي تصدرت الصحف في الأيام القليلة الماضية، فمنذ عشر سنوات وهو يجاور المصريون على اختلاف دياناتهم لم يتعرض له أحد ولا يؤذي مشاعره أحد ''الشعب المصري واعي وعارف إن اللي بيقتل ده الإرهاب''، مشيرًا إلى أن الصراع على كرسي الرئاسة هو السبب وراء انتشار حالات الفوضى التي تعم البلاد العربية.
في شارع المعونة الأمريكية، وبجوار القرية الذكية بحي المعادي أحد أرقى أحياء المحروسة، تكمن فيلا على حد كبير من الأناقة والفخامة يرفرف فوقها علم الليبي الذي تتنوع ألوانه الزاهية بين الباردة والساخنة، ليشير إلى مقر نادي الجالية الليبية بمصر. بصوت واثق ولسان طليق، يخدع المتصل في تصنيفه مصري الجنسية، وسام الحجاجي نائب مدير العلاقات العامة والمراسم في المنسوبية الليبية لدى جامعة الدول العربية، يجلس على مكتبه داخل مقر الجالية، ويتواصل مع الأسر الليبية المقيمة بمصر، محاولًا إمدادهم بالمساعدات المتاحة، وإيصال صوتهم للمسؤولين.
منذ سنوات عدة يقيم هو وعائلته الصغيرة بمصر، يداوم عمله داخل أسوار نادي الجالية على أنه ليبي الجنسية يخدم أبناء بلده ويتواصل معهم باستمرار، وخارج أسوار النادي يتعايش كمواطن مصري وسط جموع المصريين يتمتع بنفس حقوقهم ويؤدي واجباتهم.
يقول وسام إن أفراد الجالية يعيشون بسلام على الأراضي المصرية، حتى مع توتر العلاقات بين البلدين بعد العثور على جثث مصريين بليبيا، وأوضح أنه حتى الآن لم يصل إلى مسامع نادي الجالية تعرض أحد أبنائها لأي ضرر أو أذى، وأنهم جميعًا يعيشون في إخاء ومحبة مع المصريين، وحتى إذا تعرض أحد لأي مشاكل فستكون حالات فردية، وهذا لا يمثل الشعب المصري الذي يستقبل الأجانب عنه بكل ترحيب ومودة، واعتاد المواطن الليبي على حسن المعاملة من أبناء الشعب المصري.