كتبت-إشراق أحمد:
هائمًا على وجهه رغم ثبات نظراته نحو السيارات المارة على سرعتها، كلما وجد زحام تولى شطره، عند مفرق الطرق مكانه، والوقوف أمام ما يظنه البعض خطر، بالنسبة له مسؤولية حملها دون طلب، ''فالستر'' غايته، و''الأجر والثواب'' دافعه، ''الذكر'' أنيسه، و''متعته'' النظر إلى السماء إن وهجت شمسها أو نثرت ضوئها هونًا أثناء ساعات وقوفه، متحليًا بإيمان أن ''لله قوم أخلصوا له فجعلهم خدام لعباده''.
الاسم ''عبد النبي عبد السيد عبد الواحد''، يُعرّف نفسه بأنه من ''خدامين أهل البيت''، عند أحد مفارق طريق المعادي- حلوان يستقر مكان الرجل الستيني، يتخذ وقوفه بمنتصف الدوران، وجهه قِبل كورنيش النيل، كرجل المرور يعمل، لا يلبث أن يديره بقدوم السيارات التي لا تتوقف إلا عند ''الملف''، فيَهم الرجل بعصا بلاستيكية طويلة، مرتميًا في طريق العربات القادمة مسرعة، يطالبها بالتوقف لتمر الأخرى.
ذهابًا وإيابًا يعبر ''عبد النبي'' بين السيارات، يوقف هذه تارة وتلك تارة أخرى، لا يبرح سبحته بلونها الأخضر الباهت، فعليها يعد مرات ذكره غير المنقطع طيلة ''شغله'' حسب وصفه: ''وأنا واقف بصلي على النبي''، يليه قراءة قصار السور وما تيسر من الأذكار والتسابيح، لا يحيده عنها نفير المركبات المتحركة من تاكسي وأتوبيسات وأخرى نقل ثقيل، يتحدث فقط إذا أراد شخص ذلك، ولا يلبث أن يضيق لأنه ''تعطل عن الصلاة على النبي''.
من ''الحوامدية'' بمحافظة الجيزة يأتي ''عبد النبي''، مرتديًا جلبابه ''الكحلي''، مزينًا رأسه بطاقية من الصوف الأسود، منتعلًا ''شبشب'' فوق جوارب بلون عباءته، يتوقف بمكان اتخذه منذ 30 عامًا، تاركًا مهنته الأولى ''حلواني'' شاردًا بالطرقات، مؤمنًا أن لخدمة الناس أرباب سخرهم الله، بداية من ''المجزر الآلي'' مرورًا بطريق السويس، ثم ''الأوتوستراد'' وأخيرًا طريق الكورنيش، يبرر فعله بأنه ''إماطة الأذى عن الطريق''.
تتهلل أسارير ''عبد النبي'' بقدوم عربات النقل الثقيل، يوقف لها الطريق، يساعد من يتعثر منها ناظرًا إليها ''دي بعشر حسنات''، فهي الأخطر من بين غيرها، التي كلما عبرت المفرق سليمة دون تصادم يحتسبها بثواب، ذاكرًا قوله تعالى ''من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون''.
''حاسب يا بني، استنى يا أستاذ'' يقولها ملقيًا بنفسه دون خوف أمام من يتعمد العبور، يدفع كلماته إليه بأن ذلك ضرر له، يوقن أن بوقوفه ''بربي الناس دي كلها''، يستشعرها مع انتظار السيارات وعصاه ممتدة أمام السائقين في الاتجاه المعاكس لهم، يلقي التحية على من احترم وقوفه وتمهل لإطلاق صافرته التي تخلى عنها هذه الأيام لأنها ''باظت''، بينما ضربة خفيفة من عصاه البلاستيكية على الرأس في حالة راكبي السيارات المكشوفة، ووكزة نصيب كتف الأخرين.
تلك المهنة لا يتقاضى عنها أجر، مشيحًا كل يد تمتد له ببعض الجنيهات قائلًا في إصرار ''نرفض المال''، متجنبًا الخوض في الحديث عن مصدر رزقه سوى، مكتفيا بالحمد على ''لقمة بتيجي من عند ربنا''، يجد الرجل -رب الأسرة المكونة من ولدين وزوجات ثلاث- في تلك المهنة مصدر لقوة رغم كبر سنه يعبر عنها في فرد ذراعه مشيرًا إلى صلابتها ''ربنا سبحانه وتعالى بيدينا القوة من عنده''، لا ضير يراه في وقوفه فهو ذلك ''بيريح البشرية..مافيش حوادث ولا قلة أدب''.
مع مغيب الشمس يتحرك الرجل الستيني، منهيًا يومه، محتفظًا بذكره، وقبلة وضعها على يد طفلة أطلت برأسها من نافذة سيارة تقودها والدتها، عائدًا إلى منزله ''بعد التعب بنام''، ليستعد ليوم جديد يتجلى مع صلاة الفجر، داعيًا الله بالستر والشهادة التي تتلخص بأنه ''أدفن حي''، محدثًا نفسه قبل الخروج ''حب الناس بالدنيا''.