كتبت- نوريهان سيف الدين:
تأخذك مشاغل الحياة والسعي في مناكبها، يحاوطك الزحام في كل مكان، صخب وضجيج أينما توقفت في أرجاء العاصمة، وسرعة تجعل الكل يلهث ليلحق بما يريد، تتوقف لتلتقط أنفاسك، ربما يكون فنجان الشاي هو اللذة المفتقدة، وربما تزداد تلك اللذة برفقة كتاب أو حوار مع صديق، أو بجانب صخب أخر من صحبة اجتمعت لتحاكي ''حرافيش'' روايات محفوظ.
من قلب العاصمة، توحدت عناصر ''فنجان الشاي''، إلا أن الأجواء حوله اختلفت، ما بين ''هاي كلاس'' اكتسبت رونقها من تاريخ قاهرة الأربعينات والخمسينات، وبين ''ثقافة'' محاطة بجدار زجاجي تدعمه مربعات خشبية، وبين ''رصة الفحم'' و''دخان الشيشة'' في حارة صغيرة ضجت بأفكار زوارها.
جروبي ..قاهرة الأربعينات في ''فنجان سياحي''
تمر عليه أقدام السيارة وتختلس العيون نظرات إليه، صنوف زائرين تنوعت، ما بين رجل بدت عليه ملامح الارستقراطية مصطحبا زوجته ذات الوجه الأشقر، وبين رفقة فتيات اصطحبن أجهزة ''تابلت'' واتخذن من إحدى الطاولات مركزا لاجتماع رفقتهن، وبين سيدة تخطت الأربعين من عمرها، اصطحبت قطتها الصغيرة محمولة في صندوقها الخاص، وخرجت تحتسي كأسا مثلجًا من الأيس كريم، بينما أصوات الباعة الجائلين في قلب ميدان طلعت حرب تكاد تخترق الجدران، تلفت انتباههم إلى باقي سكان العاصمة.
خصوصية فرضها ''النادل'' الأنيق لحماية زبائنه من عدسة التصوير، مكتفيا بابتسامة مهذبة توحي بأنه ''غير ممكن''، رشفات الأكواب ودقات المعالق هي الصوت الغالب في المكان، بينما الخلفية كانت ''ساوند تراك'' لإحدى مقطوعات الموسيقى العالمية، من بين المتواجدين كان ''عمار الحسيني- مهندس بهيئة المساحة''، قال: ''كوباية الشاي واحدة في كل مكان، من أول اللي بيعملها (الفاعل الصعيدي) في موقع الشغل، لحد اللي بتشربها على الطيارة، المهم الجو والحالة العامة اللي بتحس بيها وأنت قاعد تشربها''، مضيفا أنه مستمر على عادة اصطحاب زوجته كلما سنحت لهم الفرصة، ليعيدا معا ذكريات ''أول فسحة بعد الخطوبة'' في قاهرة السبعينات.
برتوكولات حكماء ''ريش'': ممنوع دخول الغرباء
الثقافة سمته المميزة، والكتاب تأشيرة دخولك لهذا المكان، مستطيل من الزجاج والخشب والإضاءة المحتجبة وراء الزرع الصناعي، ماكينة ''اسبرسو''
تتصدر المدخلن بجانبها غلاية كهربائية وبضعا من أصناف الأعشاب وعبوات الشاي والسكر.
رجل خمسيني ملامحه ليست بالغريبة، جلست بجانبه فتاتان قالتا انهما تلميذاته في أحد الأحزاب القريب مقرها من وسط البلد، اتخذا معلمهما وسيلة ليسمح لهما القائم على المكان بالدخول، فالمكان أشبه بالنادي الثقافي، يعرف مرتادوه بعضهم البعض بشكل جيد، منذ أن كان سابقا مقهى للأجانب في الحقبة الملكية، وجلس بين جنباته أكابر مثقفي القوم.
''هدير ورضوى'' الفتاتان في مقتبل العشرينات، قالتا أنهما يعرفان المكان جيدا منذ زمن طويل، إلا أن الدخول غالب الوقت غير مسموح إلا لأصحاب المكان والشخصيات المثقفة المعروفة، لكنها المرة الرابعة لدخولهما هذا المكان كانت اليوم، حيث اتفقتا مع أستاذهما للترتيب لنشاط في نقابة المحاميين، وكان ''ريش'' مكان اتفقا على أن يشهد ترتيبهم هذا.
فنجان أبيض محمول في طبق مخصص له، كان مخصصا للرجل الخمسيني، في كين كانت الأكواب ''الفوم'' هي المخصصة لزوار المكان، مكتبة صغيرة ضمت كتبا أدبية ومن التراث والأدب الحديث، كانت هي بحق خير ما يقدمه هذا المقهى لزواره.
الخُن: ''فؤش'' يرحب بكم
شوارع تفصلك بين هذا المكان وبين أكبر نقابتين في مصر ''الصحافيين والمحاميين''، ضجة لا تعرف مصدرها، وصبي صغير وقف على ''نصبة قيشاني''، جسد صغير وحركات بهلوانية في سرعة إعداد الأكواب، في حين كان للفحم موقدا مخصصا له بالخارج، يزداد اشتعالا مع قدوم ''كرم- كبير المقهى'' مع قدوم المساء وزيادة الحركة على ''قهوة الخن''.
الاسم وحده كفيلا بوصف الجو العام للمقهى الشعبي الصغير، الكامن بين جنبات بيوت قديمة وبداخل عطفة صغيرة للغاية، يمتد طولا ليسمح بوضع مقاعد بلاستيكية وتليفزيون مبرمج على مباريات الدوري العام والدوريات الأوروبية، حركة خفيفة نهارا من موظفي الأماكن الحكومية وبعض الشباب، تزداد حتى لا يصبح في المكان موضع قدم شاغرا مع قدوم الليل، وتستمر نار المواقد للفحم وبراد الشاي حتى طلوع الفجر.
''إسلام المصري'' الطالب الجامعي فترة الدراسة، وبائع الملابس بمحلات وسط البلد خلال الإجازة، جلس قليلا يعبث بهاتفه المحمول منتظرا قدوم الساعة للعاشرة صباحا إيذانا بفتح المحل وبدء اليوم، قال إن السكن والعمل بوسط البلد جعل من ''الخُن'' ملتقى له ولأصدقائه منذ انتهاء دراستهم الثانوية، أسعار الخدمة و(القعدة في البراح) هي ما يفتقدانه، شارحا: ''يعني أنا بصرف هنا في المتوسط 15 جنيه مثلا، دول مش كفاية أشرب بيهم كوباية شاي في أي مكان تاني''، قائلا أن المكان يأتي إليه الممثلين والشخصيات الثورية، وأنه اقل في اسعاره عن بقية مقاهي منطقة البورصة.
أما عن ''كرم'' أو كما يلقبونه بـ''البرنس والرجل الأول''، فعلى الرغم أنه ليس مالكا للمكان، إلا انه الاكثر شهرة من بين القائمين على المقهى، مهمته الأولى هي ايقاد فحم الشيشة، وهو الموكل بحساب التكاليف لكل شخص تطأ قدماه منطقة ''الخن''، نظرته لكيفية تقدير الأسعار تتلخص في ''أسعارهم دي عشان التكييف إنما هنا الدنيا سهلة''.
لمتابعة أهم وأحدث الأخبار اشترك الآن في خدمة مصراوي للرسائل القصيرة.. للاشتراك...اضغط هنا