كتبت - رنا الجميعي ودعاء الفولي:
درجات سلم عديدة، يصعدها الشخص ليصل إلى عزبة ''خير الله''، منحدر يستطيع الصغار اللعب عليه بالكرة، يجاهد الغريب متسعًة خطواته ليصل إلى منتهاه، تعوّدوا أن يسكنوا على شفا هاوية، لا يفصل بينهم وبين الحافة سوى سور حديدي، لم تساهم به الدولة، وإنما إحدى المنظمات الخيرية بمساعدة الأهالي، تحتهم بحوالي ثلاثين مترًا يقطن ساكنو منطقة بطن البقرة بمصر القديمة، وأمامهم على الجهة الأخرى من الطريق مساكن تسر الناظرين؛ بعضها ليس مأهولًا بعد، تُباع بالآلاف، كأنها حلم لا يدركهم، لا يطمحون بأكثر من حياة كريمة، ومرافق تهتم بمعيشتهم.
من قال عنهم إنهم على حافة الحياة فقد وصفهم، الكهرباء تدخل لبعضهم بالجهود الذاتية بينما كان حظ آخرين في العزبة أفضل ممن ابتعدوا عن مدخلها، المجاري كذلك اختارت من كانت بيوتهم أبعد من الحافة لتدخل إليها، المستشفيات، المدارس، أقسام الشرطة وأمان، تلك أشياء تنقصهم، يرتجفون هلعًا لمجرد التفكير بمن سبقوهم بالسكن فوق صخرة، وآلام آل بهم الحال، يتحسسون طرق السلطة كلما استطاعوا، للحصول على أماكن أخرى للمعيشة، ولما ذهب بعضهم لمساكن ''عثمان'' بمدينة 6 أكتوبر التي وفرتها محافظة القاهرة وجدوها غير صالحة للإقامة فيها، فعادوا للصخرة مرة أخرى ولسان حالهم ''إنا ها هنا قاعدون''.
الهضبة ليست لضعاف الصحة
غطاء للرأس، وجه أسمر وابتسامة عريضة، تَنثُر ضحكاتها الخجولة حينما تتحدث، ودمعاتها القريبة كلما ذكرت ابنها ''أحمد''، الذي قرر ترك دراسته بالثانوية العامة، ليساعد في دخل البيت، بعدما رقد والده ''مجدي'' مريضًا في الفراش لزيادة نسبة الأملاح في الدم، الأيام لم تثنِ ''ناهد سرور'' عن بشاشة الملامح، رغم مرضها بحساسية الصدر.
انتقلت ''ناهد'' وأسرتها الصغيرة إلى منزل حماتها، بعدما مرض زوجها ليقوم أقربائه بمساعدتهم ماليًا ''عمته وحماته هم اللي بيصرفوا على البيت، وأحمد اشتغل في ورشة للنجارة عشان يساعد''، تعيش أسرة ذات الوجه الضاحك على حافة الهضبة، بعدما تركت بيتها القديم لعجز رب الأسرة عن الدفع.
يُلازم ''ناهد'' دواء حساسية الصدر كالهواء الذي تحاول استنشاقه، وسط الجو غير صحي تعيش فيه ''الحساسية جاتلي بعد ما سكنت بسنتين بسبب الدخان من حرق الزبالة''، عليها أن تشتري الأدوية كل أسبوع ''لكن انا بسبب الدواء الغالي بشتريه كل فترة''. ''أنا ناهد'' بخط غير مُهندم خطتها على غلاف دواء للحساسية، تصحبه بكل مكان، مع الأزمات الصحية المُتكررة قررت كتابة اسمها وأرقام التليفونات الخاصة بأسرتها تحسبًا لأزمة تأتيها بمفردها خارج بيتها.
تتكبد السيدة الخمسينية العناء حين الصعود والنزول لشراء احتياجات البيت ''بنزل أشتري من السوق كل فترة، أهل المنطقة هنا عارفين مرضي ولما حد بينزل بيشوف لو انا عاوزة حاجة''، تشكو قلة المواصلات والوحدات الصحية بالمنطقة ''مفيش مواصلات، فلازم أمشي أو لو فيه توكتوك بيغلي الأجرة عشان الهضبة''، لا ترغب في السكن بـ6 أكتوبر ''المنطقة بعيدة، والشقة صغيرة، أصغر أوضة هنا هي أكبر اوضة في شقة أكتوبر''، تتمنى لو كانت المساكن المُقامة أمامهم لتسكين أهل العزبة ''كان هيبقى أحسن، وقريبة من شغل ابني''.
لم تُكمل ''أم أحمد'' تعليمها، تركت الدراسة في مرحلة الابتدائية لتساعد والدتها في الحياكة ''انا لقيت أمي بتكسب فلوس واحنا محتاجينها، فحبيت اني اشتغل معاها، كانت بتديني عشرة صاغ''، ودّت لو حقق أولادها مالم تستطع هي تحقيقه ''بنتي ابتهال أخدت الدبلوم، وشاهندة مكملتش، لكن أحمد هو اللي ساب برغبته عشان يساعد في مصاريف البيت''.
جلست ''سميرة محمد''، تتحدث مع صديقتها صاحبة المشغل، تُضيع الساعات الطويلة التي تقضيها بين المنزل ودكان صديقتها، تعلم جيدًا أنها لن تخرج قريبًا، ولن تتخذ من السلم النازل إلى منطقة بطن البقرة سبيلًا، قلبها لن يُطاوعها ''عاملة عملية قلب مفتوح من زمان بس لسة بتعالج وبأخد أدوية''، عمرها الحالي خمسة وخمسون عامًا ''عملت العملية وانا لسة شابة''، كي تخرج من المكان ''بضطر انزل السلم وأريح في النص مرتين''، وعندما تعود من الخارج ''بقعد فترة مش قادرة آخد نفسي''، أما قديمًا عندما كانت تأتيها الأزمة القلبية ''كانوا بيلفوا بيا على أقرب مستشفى مكنتش بلاقي جهاز تنفس حتى في مستشفى دار السلام هرمل''. جاءت للعزبة منذ كانت في الثلاثين ولم ترحل ''جوزي بيشتغل أرزقي وابني في الفُخار تحت''، حتى ابنتيها التي تزوجت إحداهما تعيشان معها في نفس المنطقة.
خطوات قليلة تفصل المشغل عن منزلها الصغير، المنزل أدار ظهره ل''الحفرة'' المُتسعة التي كُتبت عليهم، أما الحوائط ''اتشققت كلها جزء منها عشان الرطوبة وجزء لأن الأساسات ضعيفة''، تشرح مريضة القلب الحال بينما تسير بتؤدة في طُرقة المنزل الضيقة تضع يدها على الشقوق كأنها ستسدها ''المطبخ أكتر حتة فيها شقوق''، حال المنزل ليس جديدًا لكن الاهتزازات ولو كانت طفيفة تؤثر بشكل كبير''ساعة لما المديرية بتاعة القاهرة انفجرت الهزة جاتلنا لحد هنا''، تذكر جيدًا الرجة كأنما البيوت تتهاوى ''احنا افتكرنا إن زلزال حصل''. الانتقال لسكن آخر سيكون شاقًا أكثر من الحياة على الحافة ''هنروح فين في أكتوبر أرزاقنا كلها هنا''، أما المباني الشاهقة الجديدة ''معرفش عنها حاجة''، تستدرك ''بس دي تلاقيها غالية أوي''.
حل المشاكل ''على الله''
سور رفيع جلس عليه بينما قدميه في وضع معكوس، ملابس منزلية سوداء، ويده أسفل ذقنه، مُتخذًا وضع المراقبة، كاد الملل يقتله بسبب انتظار تنفيذ الوعود من قبل المسئولين ''قالوا هينقلونا وكام حد جه خد الورق وفي الآخر ولا حاجة اهو''. ''إبراهيم السيد'' أتى للمنطقة منذ ثمانية عشر عامًا ''بس لما جيت سكنت كانت مفهاش حاجة خالص كدة اتطورت أكتر''، المياه والكهرباء دخلتا المنطقة بجهود ذاتية، الطبقية تظهر في كل شيء، حتى داخل العزبة الواحدة ''الناس اللي فوق على الهضبة عندهم مياه وكهرباء ومجاري احنا معندناش''، البيوت الموجودة في مدخل العزبة تقع على منحدر صخري ''قالولنا مش هينفع يركبوا مواسير المجاري هنا''.
بالنسبة له لا يريد ترْك المكان بسبب نقص الإمكانيات ''انا عايز أمشي عشان خايف أصحى الصبح ألاقي البيوت وقعت''، لا يتوقف لسانه عن ذكر الله توسلًا ألا تسقط الصخرة ''احنا عايشين ببركة ربنا مش أكتر''، لم يمر عليهم زلزال بعد ''بس يوم ما المديرية اتفجرت اتفزعنا''، ظنّ الأب لثلاثة أبناء أن كل شيء انتهى ''جريت أشوف فيه ايه ملقتش حاجة بس حسيت إن البيت وقع''، زادت هواجسه عندما مر بعقله مشهد الشرخ الكبير الموجود بطول المنزل، شقوق منزله تطل على العمارات المرتفعة في الجهة الأخرى ''بيقولوا بتاعة الحكومة بس احنا ملناش فيها الشقة هناك بنص مليون جنيه''.
''اختي كانت واخدة شقة في اكتوبر من الناس اللي كانوا هنا ومشيوا بس الشقق حالها صعب''، مساحات الشقق التي قررت المحافظة إعطاءها لهم، تتراوح بين الأربعين متر إلى الخمسين ''الناس بقت تروح الشقق وترجع تأجر هنا تاني''، تتساوى مساحتها وتتفاوت أعداد السكّان المنقولين لها ''يعني واحد عنده خمس عيال زي واحد عنده اتنين''، بين استيفاء أوراقهم وانتظار رد المحافظة والوعود الغير محققة ''ادينا هنشوف.. كل رئيس ييجي يوعدنا بحاجة ومفيش حاجة بتحصل'' وقت الرئيس المخلوع ''محمد حسني مبارك'' لم يزداد الاهتمام عن عهد المجلس العسكري و''محمد مرسي'' من بعده، يمر المسئولون بجانبهم ولا يعيرونهم انتباه ''ياما تليفزيون جه صوّر وفي الآخر محصلش حاجة''.
حالة اليأس من حل المشاكل انعكست على ردود أفعال البعض ''يعني هتعملولنا ايه؟''، ألقاها الفتي الذي كان يحوم في المكان، تتهم نظراته القادمين من الإعلام بصفة عامة بنفعيتهم ''عايزين يعملوا شغل على قفانا''.
خطوات معدودة تفصل بين ''إبراهيم'' و''أم سيد''، تجلس أمام محل البقالة التي تملكه، مبدية اعتراضها على تواجد الصحافة ''ايه يعني ناس كتير جت ومفيش حاجة اتغيرت.. هتعملوا ايه تاني؟'' بتلقائية أجابها ''أحمد'' أحد الأطفال بالمنطقة ''عشان الناس تحس''. عشرون عامًا قضتهم السيدة الخمسينية بعزبة خيرالله، كل ما تريده هو إصلاح حال ''المجاري''، ''يعني ياريت الحكومة لو هم ولاد حلال ييجوا يصلحوا المنطقة''، ترغب ''أم سيد'' في البقاء بالمنطقة ''أكل عيشنا هنا''.
حالة من الخوف ملأت النفوس بالمنطقة ''اوعوا تكونوا من منظمة أجنبية، وهتطلع الكلام دا برة'' قالها أحد العُمال مستندًا إلى السور، وافقته ''سميرة'' التي وقفت خارج بيتها ''أيوا الكلام دا ميطلعش برة مصر، مش عاوزين شكل البلد يبقى وحش''، مفسرة تباطؤ المسئولين بأن ''حال البلد صعب دلوقت، هما كانوا هيصلحوا المنطقة بس الشباب اللي بيموت والظروف خلتهم ميجوش''.
على ماكينة الخياطة انكبت ''فتحية المرشدي'' تُخيّط ما لديها من أقمشة، تُعيل أسرة تتكون منها وبناتها الثلاث، يحتل عملها على الماكينة جزء من البيت ''هنا في شقتي بشتغل''، حاولت التعايش مع المسكان التي وفرتها لهم الحكومة ''انا روحت مع البنات عشان اسكن في اكتوبر، لكن الشقة صغيرة طب هشتغل فين ؟''، وكالكثيرين من المنطقة ترغب في سكن قريب من عملها ودراسة فتياتها.
ليست المشكلة الوحيدة للسيدة الأربعينية صغر مساحة الشقة لكن ''بنتي بتدرس في جامعة الأزهر، المسافة كبيرة بين اكتوبر وجامعتها في مدينة نصر''، لا تُمانع ''فتحية'' كتابة شكوى إلى إدارة الحي لكن ''الشكوى لازم تبقى جماعية وهنا كتير من الأهالي أميين''.
أمام معسكر الجيش بالعزبة، بعيدًا عن الحافة، يقطن ''مصطفى عبدالبديع'' الذي يدير جمعية خيرية تهتم بحال الأهالي ''المنطقة بسبب كبر مساحتها متقسمة على تلات أحياء :مصر القديمة ودار السلام والبساتين، وتعداد سكانها حوالي مليون وثمانمائة ألف نسمة''، يحكي ذو اللهجة الصعيدية أن عمل معظم أهالي المنطقة ''أرزقية، بيشتغلوا في البلاستيك والمعمار''، تتلخص طلبات السكان ''عايزين مدرسة ونقطة شرطة ووحدة صحية وسجل مدني''.
مساحة كبيرة يشغلها معسكر للجيش ''المعسكر دا من قبل الملك فاروق، كانت هنا كتيبة دفاع جوي عشان دي كانت نقطة ارتكاز للاستطلاع، لكن دلوقت مبقاش أعلى نقطة، هما لو سبوها الناس هتيجي تعمرها، بس معينين عليها حراسة''، قد زالت خطورة ارتفاع حافة الهضبة كما أكد ''مصطفى'' ''الحي جه هدّ 30 متر فوق الهضبة و30 متر تحتها''.
ومتى منع الخطر اللهوّ؟
مكان دائري أشبه بغرفة صغيرة، مفتوحة السقف، على تبة مرتفعة كانت تقبع، قطع صخرية تراصت بجانب بعضها، تساقط جزء منها ليترك مكانًا للعابرين ليمروا، لا يصعد لها أحد إلا هم، يتحلقون فيها كهاربين من بيوتهم، تُسمع ضحكاتهم من الأسفل، ''أحمد''، ''حمادة''، ''محمد''، أولهم أكبرهم سنًا، وأكثرهم سيطرة، يقود الآخرين، يأمرهم أن يتحركوا ويستجيبوا له، رغم أن فرق السن بينهم وبينه عامين ''انا عندي 12 سنة''، يقولها الصغير بتفاخر، بينما يردد خلفه ''حمادة'' أن عمره عشرة، القمامة من أسفلهم، الكثير من الطوب المتكسر على الهضبة ثم هُوّة مليئة بمنازل، لا يعبأون بذلك، يلهون كأنما بُسطت الأرض لهم بسطًا، يستعرض ''حمادة'' قوته، يقفز من الصخرة المرتفعة التي تنحدر قليلًا أدناها صخرة أخرى ثم انحدار صخري خَطِر.
''اتعودنا على كدة'' يقولها ''حمادة'' بينما يتنقل كطائر، أو يقف مشيرًا بيديه ''البيت بتاعنا أهو ضهر البيت على مفيش'' يقصد أن المنزل على الحافة، يصرخ في أخيه الأصغر ''خالد'' الذي يتقافز أيضًا، يخاف حدوث شيء له كتلك الحادثة عندما كان أصغر ''خالد وهو عنده أربع سنين كان هيقع من هنا وانا جريت لحقته''، لم يتوقف الأهل عن محاولات إثناءهم عن اللعب على الحافة، ولم يهتموا هم بكلام أهاليهم، رغم ذلك يُريد الصغار فُسحة أوسع للعب ''بنروح ملعب ورانا هنا نلعب كورة فيه'' قال ''أحمد''، أما المنطقة فلا تُقلقهم كما تفعل بالكِبار ''نفسنا بس يدخلوا المجاري وهيبقى المكان هنا حلو جدا''،لكن ''حمادة'' يعارض صديقه الأكبر ''انا نفسي أروح أكتوبر''، يُرجع ذلك لحديث أهله ''قالولي إن أكتوبر أحلى وأوسع''.
الصديق الثالث ''محمد'' كان صامتًا معظم الوقت، يُحب اللعب معهم وتمنعه الحالة الصحيّة، يحوطون عليه كأنهم إخوة ''مبنحبش نخليه يلعب معانا كورة أو يتنطط معانا على الهضبة عشان بنخاف يجراله حاجة''، حادثة غيرت مجرى حياة الصغير''من سنة وقعت عليه مياه ساخنة في البيت بالصدفة''، تقول الوالدة ''شيماء محمد''، لتبدأ رحلة من العلاج بمستشفى الحسين ''جزء من رقبته وظهره اتحرق عملنا له عملية ولسه فيه علاج ناقص''، لا يستطيع الفتى تحريك رقبته بشكل كامل، أصبحت رأسه مائلة أكثر جهة اليمين، يلعب على مضض، ناظرًا للذين يلهون من حوله ''انا نفسي ألعب كورة'' يغالب صمته بتلك الجملة، بينما على الجانب الآخر تُعنفه الوالدة إذا ما أراد الخروج للعب فوق الحافة ''بقوله ميروحش معاهم بس بيروح من ورايا ساعات برضو''.
لمتابعة أهم وأحدث الأخبار اشترك الآن في خدمة مصراوي للرسائل القصيرة.. للاشتراك...اضغط هنا