كتبت-إشراق أحمد:
التاريخ يواجههم بأهرامات تظهر في خلفية وجودهم، يقابلونه ركضًا على خيولهم، يطوفون طيلة أعوامهم بصحبة وجوه أجنبية يتحدثون بلسانهم يعرفون معاني الكلم وأكثرهم يجهلون كتابة رسومها، فرحتهم تتجلى مع صهيل الخيل ذهابًا وإيابًا؛ فهي دليل حياتهم. الماضي يُخيم عليهم غير أنهم يريدون نسيانه طالما أن الجهل رفيق الدرب والتصريح ب''وقف الحال'' سجلهم متهمين ومتورطين في يوم تم تأريخه ليطلق عليه إعلاميًا ''موقعة الجمل''.
''الخيالة'' كما يطلق عليهم هنا في ''نزلة السمان'' ، أصبحوا بحلول شهر فبراير وجهة لا تلجأ إليها الكاميرات والتساؤلات رغم أن الحال لم يكن كذلك قبل ثلاثة أعوام، لم يعلموا أن قرار اتخذوه غضبًا من ''وقف الحال'' سيُفاقم الأمر من أيام إلى سنوات.
''كارتة'' تأتي من طريق بوابة دخول ''الهرم''، الساعة تقترب من التاسعة، لم تظهر بداية دخول ''نزلة السمان'' حركة كثيرة، لا أثر لخيول تعبر عن المنطقة، فقط المحال السياحية والتجارية فتحت أبوابها.
''الناس الخيالة اللي هناك ورا الصوان يعرفوا كل حاجة'' كلمات صاحب أحد المحال لن يزيد عنها آخرون كثير ممن يمتحنوا بالمنطقة عمل غير ''الخيالة''، إلا تعبيرات وجه نافية معرفة شيء أو تذكر لمثل هذا اليوم الواقع قبل أعوام ثلاث.
مع صباح يوم الثاني من فبراير 2011 خرجوا، سمعوا أنها ثورة وميدانها ''التحرير'' ممتلئ بأناس يريدون رحيل ''مبارك''، قرروا المشاركة بطريقتهم، الوجهة إلى مبنى محافظة الجيزة حسبما قالوا، الأبواب المغلقة كانت بانتظارهم. إذًا لتكن إلى طريق الداعين للاستقرار بميدان ''مصطفى محمود''، فماذا يعيب مبارك ليرحل؟؛ هكذا حدثتهم أنفسهم، فالخير كان باليد وفير، وأعداد السياح كانت تجبرهم على الفرار لالتماس شيء من الراحة لهم ولخيولهم وجمالهم.
خلف شادر عزاء تم نصبه لوفاة أحد أهالي المنطقة، توقفت خيول، بينما تسير أخرى دون مرشد لتتوقف مع الوصول إلى مكانها جوار مثيلتها، سكون بدا في الأفق لم تدب به الحركة الملحوظة إلا مع الحادية عشر'' ماكنش الحال كده كنا بنهرب عشان نرتاح من كتر الشغل'' قالها ''أسامة جمال''، 10 سنوات منذ أن بدأ عمله في ''الخيالة'' توارثها الابن الأكبر عن والده كحال أغلب أهالي ''نزلة السمان''، ''جمال'' كان ممن بين من خرجوا ذلك اليوم لكن لم يصل للميدان ''كنا رايحين المحافظة لاقيناها مقفولة راحوا على مصطفى محمود وأنا رجعت''.
العدد كان ''كتير جداً''، حسبما قال ''جمال'' لكن البعض هو ما ''خدته رجله للتحرير''، فابن الخامسة عشر عامًا ينفي ''محدش خد فلوس زي ما قالوا'' أن ''بالعقل حد عنده حصان أقل حاجة ب2000 جنية يقبل ولو حتى ألف جنية عشان يضيع نفسه''، فضياع النفس بالنسبة ''للخيالة'' ليس بتعرضها لأذى لكن إصابة أو وفاة ''الفرس'' هي كذلك لصاحبه، ومن أجل ذلك قرر ''جمال'' المشاركة في اليوم ''خرجنا عشان عايزين ناكل''.
''احنا مايهمناش غير الجنية مش السياسة'' كلمة لا تترك ألسنة ''الخيالة''، فقليل منهم منَ تلقى التعليم كحال ''محمد عبد الواحد'' خريج كلية الحقوق الذي دفعه واقع الحياة بالنزلة وعمل والده فضلًا عن عدم رغبته في ممارسة مهنة بمؤهله التعليمي لأنها ''مش هتأكل عيش'' وإيمانه إن ''كل واحدله ديه مش هيهرب منها''.
''عبدالواحد'' لم يكن يخرج مع الجمع سواء إلى المحافظة أو التحرير ''أغلب الناس هنا جهلة مايعرفوش يعني إية ثورة أصلًا'' ورغم ذلك فإن موهبتهم كما وجد الشاب الذي امتهن الخيالة منذ قرابة الخمس أعوام ''الناس هنا لو الجنية فوق العود هيعرفوا يجيبوه''.
لم يتذكر أي من ''الخيالة'' اليوم وإن كانت ذكراه مازالت باقية مع تذكر خيولهم التي ماتت ''من قلة الأكل'' قبل قرار الخروج، ومع إخلاء سبيل الثلاثة الذين تم الحكم بالسجن عليه قرابة العام، يعلمون اليوم لكن لا يعبأون له ''مش فاكره ومش عايز افتكره''، مبتسمًا جوار خيوله وجمل اتخذ موضع الجلوس قال ''عاشور أحمد'' الذي لم تختلف روايته عن أقرانه.
وجوه باسمة تستقبل من يتقدم نحوه الخيول، طمعًا في ''طالعة''، ''إبراهيم عبد الوهاب'' منذ ثلاثة سنوات وتحسن الحال بالنسبة له يتمثل في ساعة يتقاضى عنها 20 جنية تزين ال24 ساعة الخالية من الحركة جوار خيوله التي مات الكثر منها خلال العام الأول من الثورة فاضطر إلى شراء 3 آخرين لازال يتحمل تكاليفهم حتى الآن.
لا ينكر ''الخيالة'' خروج البعض منهم وذهابهم إلى ميدان التحرير، وكذلك جهل أغلبهم وأن ''الجنية'' غايتهم، وتأييد ''حسني مبارك'' كانت وسيلتهم للاعتراض على ''وقف الحال'' رغم أن كثير منهم لم ير ''الخطاب العاطفي'' الذي ألقاه-مبارك_ باليوم السابق، وكذلك تحريض ''عبد الناصر الجابري'' نائب الحزب الوطني السابق - الذي تم اتهامه بالقضية وتوفى في السجن- ويقع منزله بقلب ''نزلة السمان''. ''إحنا اللي روحنا خبطنا عليه وقلنا له أنت النائب بتاع المنطقة اطلع معانا لكن الراجل مظلوم'' حسبما قال ''جمال محمد''، فمطلبهم الذي خرجوا من أجله وفقًا لهم عزل وزير السياحة حينذاك ''زاهي حواس''.
لكن رفضهم انصب كله في الحصول على الأموال مقابل التوجه لميدان التحرير، والمشاركة في قتل المتظاهرين ''إحنا روحنا اضربنا مش ضربنا'' حسبما قال '' سامي أحمد'' الذي اعتبر الإعلام هو المروج الرئيسي لتلك الإشاعة ومعتبرًا أن وقف الحال الذي تعرضوا له جراء تراجع السياحة '' هو موقعة الجمل''.
''هاني غنيم'' من كبار أهالي ''نزلة السمان'' وابن عم ''حسين غنيم'' أو ''سيسه'' كما يطلق عليه-أحد المتهمين بالقضية - - جلس أمام محله الخاص به أكد تواجد قريبه ذلك اليوم كحال غيره من وللأسباب ذاتها، في اللحظة التي تداخلت أصوات آخرين متذكرين ذلك اليوم، فقال ''خميس'' : ''الناس كانت في مصطفى محمود وماسبيرو بترقص معانا وكان في تليفزيون بيصور بس ماذعش''.
أما ''سامي'' فقال ''أي حد كان بيمسك الخيل كان بيقع، لأنها كانت تعبانة'' في الوقت الذي أضاف فيه ''غنيم'': ''لو كان القصد إننا نقتل المتظاهرين كان كل البلد راحت مش عدد قليل''.
على خلفية صورة الفريق أول ''عبد الفتاح السيسي'' المنتشرة بالمكان يكن ''خميس'' له محبة كحال كثير من أهالي ''النزلة'' بينما الحديث عن ''الإخوان'' يبعث الغضب في النفوس لدرجة جعلته يصرح ''لو الإخوان هيوقفوا عشنا بجد المرة دي كلنا هننزل''.
''محمد أحمد'' أحد المقبوض عليهم في القضية، قضى عام داخل سجن ''الوادي'' كما قال ''عبد الوهاب'' -الشاب الحاص على ''دبلوم'' ويسعى لاكمال تعليمه-، ورغم رفض الشاب لخروج أقرانه من ''الخيالة'' ذلك اليوم إلا أنه يجد مَن خرجوا تم التغرير بهم وبحاجتهم وجهلهم مؤكدًا على عكس كثير أن نائب الحزب الوطني كان له شأن بما تعرض له أهالي ''النزلة'' معتبرًا أن المشاركين هم ''الجهلة اللي تعبوا من وقف الحال، كان بيختارهم''، وإن نفى عن الخارجين تعمدهم إزاء أحد.
شأن ''هاني مجدي'' كالشاب العشريني، يجد في ''الخيالة'' سوء معاملة ترجع لعدم تلقيهم التعليم لكن لا يتردد في وصفهم ''مظلومين الصراحة'' خاصة ما شاهدته مع عودته قبل ليل ذلك اليوم قبل تصاعد وتيرة اليوم من التراشق بالحجارة إلى إطلاق الخرطوش والمولوتوف.
مع دخول الظهيرة تزداد الحركة بنزلة ''السمان''، يتجلى ظهور الجمال والخيول وركوب الزائرين على قلتهم لها، وكذلك العربات، ويبقى مشهد وقوف ''الخيالة'' بمدخل شارع ''نزلة السمان'' رافعين سوط الخيل مرحين به مع الأرض.
لمتابعة أهم وأحدث الأخبار اشترك الآن في خدمة مصراوي للرسائل القصيرة.. للاشتراك...اضغط هنا