كتب- محمد مهدي:
تصوير - كريم أحمد:
النجوم تفترش السماء، تنثُر إضاءة خافتة على الطريق، لا تسعف العيون على الرؤية بوضوح، فيضطر الصاعدون إلى جبل موسى بمدينة سانت كاترين إلى استخدام كشافات صغيرة الحجم؛ لإنارة طريقهم، بينما ثمة إحساس بالرهبة ممزوج بحماس يجوب داخل القلوب، تستشعره طوال الرحلة، فهنا كلم الله عز وجل نبيه موسى، وتجلى -الله- لأحد الجبال فأصبح دكا ''وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ''.
للجبل أدِلاء يحفظون دروبه منذ نعومة أظفارهم، جميعهم من قبيلة ''الجبالية''، المسيطرين على العمل بالجبل، تلتقي بهم لحظة وصولك أسفل الجبل، يقود كلًا منهم مجموعة من المتلهفين لخوض تجربة الصعود، مقابل مبلغ مالي يُتفق عليه قبل بدء الرحلة، تتهلل أساريرهم عندما يلمحون وفدًا قادمًا تجاههم، ينتصر لهم في معركتهم الدائمة مع قلة الحيلة ''مفيش شغل، وحال السياحة واقف بعد ما دِول كتيرة منعت السياح عننا''، تخرج من أحدهم وتعقبها زفرة حارة، قبل أن يحث الصاعدين برفقته على المضي بخطى أسرع؛ فالطريق مازال طويلًا.
طريق صغير المساحة غير ممهد، يسمى طريق الجِمال الذي بُني بأمر من الخديوي عباس حلمي الأول في القرن التاسع عشر الميلادي، هو السبيل الوحيد لصعود جبل موسى الذي يبلغ ارتفاعه 7363 قدم عن مستوى سطح البحر، أي حوالي 2285، يسير فيه وفود من جنسيات مختلفة، ومجموعات من الشباب المصري، من جانب السور الشرقي لـ''دير كاترين''، يقابلهم مجموعة من رجال البدو بصحبتهم عدد كبير من الجِمال، يدعون الزائرين إلى تأجير سفينة الصحراء ليقطعوا به 7 كيلو متر صعودًا، قبل أن يتركهم ليكملوا طريقهم دون مساعدة عبر 750 درجة من سلالم غير مستوية تكسوها الثلوج، يوافق بعضهم على الاكتفاء بما مضى؛ خوفًا من الإرهاق، ويرفض أخرون رغبة في الاستمتاع بخوض الرحلة كاملة بكل ما فيها من مشقة.
''أخر مرة طلعت فيها الجبل كان رأس السنة.. قبل الثورة كنت بطلع كل يوم'' يقولها ''يسري نصر'' الشاب العشريني، الذي يقود إحدى المجموعات، بلهجة بدوية لا تخلو من المرارة، حزينًا على السياحة التي ضُربت في مقتل وأصبحت ''بتنِش'' بعد ثورة 25 يناير واتساع رقعة الانفلات الأمني في سيناء، بينما يخوض الطريق بدراية رغم الظلام الحالك، يتقدم تارة أمام المجموعة التي يقودها، ويتراجع مرات؛ ليتأكد أن الجميع بخير، يخفف عليهم وطأة الطريق بسرد بطولاته في السنوات الماضية بصعود الجبل يوميًا دون كلل أو تعب، وعلاقاته الطيبة مع الأجانب ممن يرتادون المكان، وكم اللغات التي يجيد التحدث بها.
''يسري'' الذي لم يكمل تعليمه مكتفيًا بالشهادة الإعدادية، لعشقه بأن يكون دليلًا ومرشدًا للزائرين من المصرين والأجانب المتشوقين لصعود جبل موسى، بعد أن عاش طفولته في الصعود مع والده وأقرانه، يفكر في الهجرة إلى ألمانيا لعدم وجود فرص عمل بداخل بلدته ''اتعرفت على بنت من هناك طلعتها الجبل مع والدتها، ووعدتني تلاقيلي شغل عندهم'' يقولها بوجهه البِكر متضرجًا بدماء الحياء، مفسرًا لسر تحديده ألمانيا كوجهة لحل مشكلته.
بعد أقل من ساعة في رحلة الصعود، تظهر أول استراحة في الطريق، كملاذ لابد منه، لتوفير الدفء والزاد، عبارة عن غرفة كبيرة، بُنيت من أحجار الجبل مخلوطة بالإسمنت، داخلها مصاطب عديدة ملتحفة بسجاد بدوي، ومصباح كبير يحيل الظلام إلى مجرد شبح في الخارج، بينما يجلس الحاج ''عبدالرحمن'' ذو الخمسين عامًا، صاحب الاستراحة، بصحبة عاملين معه، في أحد الأركان، أمامهم مجموعة من المشروبات الساخنة، والأكلات سريعة التحضير، يستقبلون ضيوفهم بودٍ ملحوظ، يتركونهم يجلسون لالتقاط الأنفاس اللاهثة، والصور التذكارية، دون أن يطلب أحد أموال أو يجبر الموجودين على شراء أي شىء من تلك المتراصة أمامه.
يزم الحاج ''عبدالرحمن'' على شفتيه أثناء شرحه لأحد السائلين عن حال السياحة في الجبل، ذاكرًا أن قلة الرزق أعيت عددًا من أصحاب الاستراحات، وأجبرهم عدم وجود أقدام تؤنس وحدتهم في الجبل وتمنحهم أموال مقابل الخدمة المقدمة على ترك العمل ''عندنا 18 استراحة في الجبل، 4 منهم مقفولين عشان صحابهم زهقوا من قلة الشغل''، يصمت فجأة ويُطلق نظرة طويلة تجاه باب الاستراحة، يرى الوافدين الراغبين في القليل من الدفء، فتتبدد نظراته التعسة وتتحول إلى ابتسامة رضا.
في الطريق مرة أخرى، الساعات تمضي، البرودة تزداد، الإنهاك يحل على الأجساد، يقرر شاب كسر وحشة الأجواء بالغناء للشيخ إمام بصوت خفيض ''يا مصر قومي وشدي الحيل كل اللي تتمنيه عندي''، يتفاعل المارين بجواره مع صوته، فتعلو حناجرهم بالغناء، فيُسمع الصوت واضحًا مفعمًا بالقوة في أرجاء الجبل، تبتهج القلوب، وتُسرع الأقدام بحماس ملحوظ، يخرج سؤال في الظلام لا تتبين صاحبه، عما تبقى من الطريق حتى الوصول إلى القمة، يضحك ''يسري'' الذي يغيب ويظهر فجأة ''الأجانب بيطلعوا الطريق ولا تسمع منهم سؤال، المصريين كل دقيقة يحبوا يطمنَوا.. بس هما فين الأجانب؟!''
الاقتراب من السلالم، التي تفصل الجميع عن الوصول إلى قمة الجبل، تعني قطع نحو 5 ساعات مشيًا على الأقدام، وانخفاض درجة الحرارة بشكل ملحوظ، حيث التنفس ببطء، والشعور بخدر في أطراف الأيدي والأقدام، الشفاه تتدلى بشكل غريب كأنها ستسقط أو هكذا يخُيل لصاحبها، الوجوه مرتبكة، بعضها استسلم، وبعضها يتلفظ بسباب لمن أشار عليهم بتلك الرحلة بشكل ساخر ثم تنفجر الضحكات، ووجوه أخرى تُرسل نظرات تطمئن ''هانت''، يحاول بعض من المتماسكين الشغوفين بالمغامرة، نسيان ما يحيط بهم، يرتدون ملابس جديدة فوق ملابسهم فتبدو أجسادهم ضخمة، لكن رعشة تسري فيهم تؤكد أن البرد مازال يدكُ كل حصونهم، يدغدغ مساحات الدفء بداخلهم، ولا ينقذهم سوى رجال كاترين المتراصين بجوار بعضهم يعرضون ''بطاطين'' تُنقذ من يحتاجها من براثن الصقيع.
بعد معاناه الصعود على سلالم من أحجار غير مستوية تكسوها الثلوج، تتسبب في انزلاق أقدامك دون إرادتك؛ إن لم تتوخ الحذر، تأتي القمة، وجوه منتصرة، وصيحات فرحة، وأحضان تجمع الأصدقاء والأحباء، يتوزع الجميع في أنحاء القمة، البعض أنهكهم التعب فالتحفوا بالبطاطين، وجلسوا منتظرين شروق الشمس، وآخرين طفقوا يلتقطون صور لتذكرهم بعد سنوات أنهم استطاعوا التغلب على التعب واليأس والخوف، ونجحوا في الوصول إلى القمة، فيما أتخذ عددًا من الشباب المسجد القابع في القمة وجهتهم للصلاة والدعاء، والبحث عن دفء فُقد بفعل درجة حرارة أقل من الصفر، واتجهت مجموعات أخرى نحو كنيسة صغيرة.. أحد الزائرين دُهش من أسراب السحب الملتفة حول الجبل، فصاح مُحدثًا صديقه ''كأن طيارة حدفتني وسط السحاب''.
''موسى مرضي'' شاب يشق سنواته الأولى في العقد الثاني من عمره، يرتدي جلبابًا فوقه جاكيت، رغم صعوبة الجو، لاعتياده الجبل، يطل على من وصلوا للقمة، بابتسامة رائقة، أول ما يتفوه به مستقبلًا الوجوه المرهقة ''هتيجوا تاني؟''، يردفها قائلًا ''الطلوع صعب شوية بس الموضوع ممتع أوي''، يناول الشاب -الذي يملك نصيبًا من اسمه- قطع من الرخام على شكل بيضة لشاب مهتم ببضاعته، يقنعه أن يحصل عليها كتذكار من المكان، يُعدد لهم مزاياها وأنها صعبة الكسر، وما أن يبيع إحداها تحمر وجنتيه مبتهجًا ''يارب حال البلد ينصلح عشان يفضل الجبل عامر بالناس على طول''.
عقارب الساعة تتحرك ببطء تشير إلى قُرب اللحظة الموعودة، العيون مشدوهة نحو السماء، في انتظار لحظة تكبدوا من أجلها الكثير، الشمس تبزغ من رحم السماء، ينقعش الضباب، تتلون السماء بحمرة مهيبة، تتخلص الشمس من قيودها رويدًا رويدًا فتظهر جلية في المنتصف، تُنير الأنحاء، تتشابك السُحب لتصنع لوحة ربانية بديعة، الصمت في تلك اللحظات يُصبح بليغًا، ملامح الجميع أصبحت أكثر نضارة وكأن النور اخترق القلوب مباشرة، ثمن عناء الطريق يستحق، يبتسم ''موسي'' الذي يتنقل بين الموجودين ببضاعته، يقول بلهجة مفعمة بالأمل ''الجبل من غيركم ضلمة، لازم ترجعوا تاني''.
لمتابعة أهم وأحدث الأخبار اشترك الآن في خدمة مصراوي للرسائل القصيرة للاشتراك...اضغط هنا