كتب - دعاء الفولي ويسرا سلامة:
شمسٌ تميل إلى المغيب، وعام يقترب من النهاية، يجلس عبد ربه على دكته العتيقة، فى مرساه بالمعادى مُطلقا نظره إلى مدينة سكنه ''منيل شيحة''، وتاركاً معها هموم مستقبل مثقل وحاضر لا يعرف الاستقرار.
نهاية العام لدى عبد ربه تعتبر موسم لاستقبال الزبائن، من العائلات أو من ''الحبّيبة''، الذين يجدون فى ركوبة النيل خير مناسبة لختام العام ، أو فسحة تروّح عن أنفسهم، لكن هذا العام حلّ الركود ضيفاً بديلاً على مراكب عبد ربه، بعد أربعين عاماً من مهنة المراكبي.
''المراكب ربطت''، هكذا يعبر ''عبد ربه'' عن وقف الحال في المرسى، فوجود الركاب لديه لا يتناسب مع من كانوا يأتوا من قبل ثورة 25 يناير، والتى التهمت زبائنه الذين كان أكثرهم من السائحين العرب والأجانب، ليتركوا المراكب لا يحركها سوى أمواج متلاطمة من نهر النيل.
انحدار الحالة الأمنية فى البلاد أثر على الرجل الخمسيني ومن يعملون معه فى المرسى، أشياء تحدث هنا وهناك لا تترك له متسعاً من الرزق، أعداد قليلة من الزبائن تيسر سير العمل، فقط فى الأعياد والمناسبات يأتي بعضهم من حين إلى آخر، أو بعض الأعمال السينمائية التى تُصور فى المراكب تساعده وسط تلك الحالة.
مركب شراعية لا تستخدم ''المواتير'' ولا تضطر إلى خروج عوادم.. ضوضاء أقل وتلوث غير متوقع..أمان للمركب لإن لها ''رُبة'' تساعدها على التوازن.. كلها أسباب يذكرها ''عبد ربه'' كانت تجذب الركاب إلى مرساه، وهو ما يفضله الأجانب والعرب لتميزه بالهدوء، بجانب التكلفة المتوسطة للرحلة، بحوالى خمسين جنيه فى الساعة.
قيود روتينية يتعثر فيها عبد ربهأو كما يقول ''لفة كبيرة'' من أجل ترخيص مرساه، فالسُلم ومدخل المرسى تابعين للحي، أما الشريط النيلى الذى ترسى فيه المراكب فيتبع وزارة الرى، والزرع والمشتل الملحق به تابع لوزارة الزراعة، والمراكب تابعة لإدارة المركبات بوزارة النقل، دوامة روتينية تلتهم أمواله ومجهوده فى عملية الترخيص.
لم يفكر ''عبد ربه'' في الاتفاق مع أحد الشركات السياحية لتنظيم رحلات سياحية عنده، لأنهم ''بياخدوا نص الفلوس ليهم، أو هيقولولي خد منهم خمسين جنيه في الساعة وهما هياخدوا أكتر''، ولذلك لا يُحب التعاون معهم، على حد تعبيره.
''نفسى فى الإستقرار والأمن والناس اللى فى المناصب تعمل شغلها''.. ثلاث أمنيات تمناهم الرجل الستينى فى نهاية عام 2013، ومع مطلع عام جديد.. ''الناس عايزة تاكل عيش'' تمناها عبد ربه للعاملين معه فى المرسى، فى انتظار أن يستقر الوضع ليزيد ركابه.
جلس على مِقعد خشبي غير بعيد عن مدخل المَرسى، يراقب بعض الزبائن الذين يتفقون مع عبد ربه على سعر الرحلة، دون التحرك؛ فهو لا يعمل في المكان، يأتي كزائر بشكل شبه يومي، ليتخلص من متاعب الحياة بالنظر إلى النيل، ثم يعود لمنزله في منطقة منيل شيحة.
كمال؛ الأخ الأكبر لعبد ربه، أخذته الحياة في منحى آخر غير أخيه الأصغر منه، فرغم أن الأب كان مراكبي؛ إلا أن العمل آل في النهاية إلى الابن الأصغر يُديره، واكتفى كمال بالتحاقه بالجيش المصري في سنوات الحرب، ثم العمل كمُدرّس للغة العربية.
التحق ''كمال'' بالقوات المسلحة لتأدية الخدمة العسكرية في ذروة الأحداث، فبدأ الالتحاق من 5 يونيو 1967 وانتهى عام 1974، شاهد الهزيمة والنصر وموت الرفقاء؛ فذكريات الحرب لا تختفى من مخيلته، يرويها لكل من يقابله، ويفخر بها، فيقول ''شاركت فى الحرب وفى نصر الجيش.. الحرب كانت مفاجأة للإسرائيليين..الحرب كانت صعبة صعبة صعبة''.
لقطات لا تترك ذهن كمال؛ بعد ان اقترب فيها من موت محتوم، لا ينسىأحد الأيام عندما كان فى كتيبة حربية على خط دفاع الجيش فى الإسماعيلية، ف''معبر 31'' هو الذى عبره فى الحرب؛ حيث كان عاملا في المشاه. ووجد مجموعة من الدبابات الإسرائيلية، وكانت قوة أسلحة العدو سببا فى ارتباك الكتيبة، ''اجهزة المصريين ثقيلة وعتيدة بعكس أسلحة العدو الخفيفة''، على حد قوله.
دقائق مرت ببطء بعد ان انبطح على الأرض بجوار زملائه، وأمامه عدد من الدبابات الإسرائيلية، خطأ فى مراقبة الجيش المصرى تسبب فى ذلك الوضع، فلم يبقَ معه سوى أر بى جى فى مواجهة الدبابة، انقذته معجزة إلهية بعد أن دُمرت دبابات العدو بسبب اشتعال الذخيرة، وكان كمال قد استعد للموت ''استشهدت على نفسى وحطيت وشى فى الرمل..بس الحمد لله..العمر فيه بقية''.
خرج كمال من الجيش شبه فاقدا للسمع، ورغم ذلك لم يبغِ يوما عِوضا ماديا عن ذلك، أو عن السنين التي مرّت وهو بداخل الجيش، سُلّم صعده كمال في الترقي الإدارى بوزارة التربية والتعليم عقب عودته للعمل بها، فمن مدرس إلى ناظر بالمدرسة ثم موجه ورئيس قسم فى إدارة البدرشين والعمرانية، وأخيرا مدير لشئون الطلبة، حتى خرج على المعاش.
أولاد ''كمال'' الأربعة في درجات تعليمية مختلفة، منهم من يعمل في مهنة التدريس كوالده، وفيهم مُحاسب، لا يتمنّى كمال شيئا لنفسه في العام الجديد، فقط ''أحوال البلد تستقر، والإرهاب ينتهي، مش كل يوم أتوبيس يتفجر''، فأرواح الشباب التي تُزهق أمرا لا يُرضيه، كما يريد أن ''الطلبة تركز في التعليم بتاعها فقط وتسيبها من السياسة''.
لمتابعة أهم وأحدث الأخبار اشترك الآن في خدمة مصراوي للرسائل القصيرة للاشتراك...اضغط هنا