كتبت - نوريهان سيف الدين:
جلس على العرش 16 عاما فقط، لكنه نقل مصر نقلة حضارية كبيرة، ورث عن جده حب التشييد و البناء، و كان أول من حمل لقب ''الخديوي''، توسع ملكه و شمل ''منابع النيل''، و جاءه ملوك و أباطرة العالم يحتفلون معه في قصوره، لكن سنوات حكمه تسببت في اثقال ''المحروسة'' بالديون، و انتهى به الحال ''معزولا منفيا'' على متن ''يخت المحروسة''، ليموت وحيدا في قصره بـ''اسطنبول''.
''الخديوي اسماعيل'' نجل ''ابراهيم باشا'' القائد الحربي و الفاتح الكبير، و حفيد ''محمد علي باشا'' مؤسس مصر الحديثة. مولود في مثل 31 ديسمبر 1830، في بر المحروسة (القاهرة)، و كان الوريث الشرعي للعرش بعد رحيل اخاه الكبير، اتم تعليمه بفرنسا، و هناك؛ انبهر بحضارة الامبراطورية الفرنسية و جمال العمران بها، و تمنى أن تكون ''المحروسة'' تماما مثل ''باريس- عاصمة النور''.
عندما بلغ 33 عاما، تولى ''اسماعيل'' حكم مصر و السودان، و ذلك بعد وفاة ''سعيد باشا'' في 18 يناير 1863، و اصبح ''اسماعيل'' خامس حكام ''الأسرة العلوية'' و تلقب بـ''الباشا'' في بادئ الأمر، إلا أنه بعد ثلاثة أعوام حصل على ''فرمان من الباب العالي- السلطان العثماني'' منحه فيه لقب ''خديوي- أي العظيم'' و كان المقابل زيادة في الجزية المصرية المرسلة لعاصمة الامبراطورية العثمانية ''الآستانة''.
في عهده، زاد نفوذ الدولة المصرية، و حصلت بمقتضى ''الفرمان الشامل'' على سيادة أكبر للتحكم في شئونها، بعد أن تقلصت من قبل عنادا و تحديا لنفوذ الجد ''محمد علي باشا''، و اتسع ملك و فتوحات ''الخديوي اسماعيل'' لتشمل الساحل الغربي للبحر الأحمر كاملا، حتى وصلت إلى ''الصومال'' متحكمة في موانيها البحرية و مضيقها الاستراتيجي، كما ارسل ''اسماعيل'' حملات عسكرية عدة لاكتشاف منابع النيل و التحكم فيها، و إلغاء تجارة الرقيق في القارة السمراء اسوة بالإمبراطوريات الاوروبية المتقدمة.
عدة اصلاحات شهدتها مصر في عهد ''افندينا الخديوي اسماعيل''، و ارجع للأذهان صورة ''محمد علي باشا'' و نهضته في جميع النواحي، فكان ''الاصلاح النيابي'' متمثلا في تطوير ''مجلس المشورة'' الذي اسسه ''محمد علي'' لاستشارة الأعيان و العلماء في امور التعليم و المسائل الادارية، و اصبح ''مجلس شورى النواب- مجلس الشورى حاليا''، و اصبح بإمكان الشعب اختيار من يمثلهم في هذا المجلس، و عقدت الجلسة الأولى في 25 نوفمبر 1866.
شهد التعليم في عهده تطورا كبيرا، فاستكمل مسيرة جده ''محمد علي باشا'' في ارسال البعثات إلى فرنسا و ايطاليا، كما أوكل ''علي مبارك باشا'' في وضع ''قانون التعليم الأساسي'' و جعله إلزاميا، و زاد من أجله ميزانية ''نظارة المعارف- وزارة التعليم''، و اوقف الأراضي للإنفاق على هذا الهدف، كما كلف الحكومة بتحمل نفقات التلاميذ الدراسية.
أنشأت في عهده مدرسة ''دار العلوم'' لتخريج ''الخوجة- المعلم المدرسي''، و ارتفع شأن المعلمين في زمنه، كما انشئت ''المدرسة السنية'' كاول مدرسة لتعليم الفتيات، و تأسست ''دار الكتب، الجمعية الجغرافية، دار الآثار''، و ظهر في عهده ''جورنال الأهرام'' علي ايدي ''سليم و بشارة تقلا- الجورنالجية القادمون من بر الشام''.
في زمنه أيضا عرفت مصر ''النظارات- الوزارات'' بدلا من ''الدواوين'' المعروفة منذ زمن ''المماليك''، و تشكلت أول ''نظارة'' على يد الأرمني ''نوبار باشا'' ، كما انشئت ''المجالس المحلية'' لمعاونة ''النظارات'' في ادارة و تسيير شئون البلاد، و ألغيت في عهده ''المحاكم القنصلية'' لتتغير إلى ''المحاكم المختلطة''، و كان مقرها هو ''دار القضاء العالي'' حاليا.
شهدت مصر في زمن ''أفندينا اسماعيل'' نهضة عمرانية كبيرة، و اصبحت مصر بحق ''باريس الشرق''، ففي فترة حكمه انتهت أعمال حفر ''قناة السويس''، و التي حصل المهندس الفرنسي ''ديليسيبس'' على حق امتيازها في زمن ''سعيد باشا''، و افتتحت القناة في عهده في احتفالية رائعة حضرها ملوك و اباطرة و امراء و نبلاء اوروبا، و ظهرت ''اوبرا عايدة'' احتفالا بهذه المناسبة، كما تأسست ''تياترو الاوبرا الخديوية- دار الاوبرا القديمة'' من أجل هذا الغرض، و اقيمت على مقربة من ''قصر عابدين''، و الذي شيد أيضا في عهده هو و ''قصر رأس التين'' بالإسكندرية، و ''سراي الجزيرة- فندق ماريوت حاليا'' من اجل اقامة امبراطورة فرنسا، و ''جسر قصر النيل'' لإيصال ''الجزيرة'' بباقي اراضي المحروسة، و مدت اعمدة الانارة و خطوط المياه للشرب، كما حفرت ترعتي ''الاسماعيلية و الابراهيمية'' في عهده.
كل هذه الاعمال الضخمة الباقية حتى يومنا هذا جاءت بـ''الاستدانة''، وأثقل كاهل مصر جراء تلك الديون، و هو ما استغلته ''انجلترا و فرنسا'' للتدخل في شئون مصر، وعينت اثنان من الوزراء ''انجليزي و فرنسي'' فيما يعرف بـ''نظام المراقبة الثنائية'' على الميزانية الحكومية و الانفاق، و بلغ التدخل مداه في الضغط على ''السلطان العثماني'' لخلع و عزل ''الخديوي اسماعيل'' في 26 يونيو 1879، و تولية ابنه ''الخديوي محمد توفيق'' بدلا منه، و رحل ''اسماعيل'' على يخت ''المحروسة'' إلى ميناء ''نابولي الايطالي'' و منه إلى ''الآستانة''، قبل ان يستقر به المقام بأحد قصور اسطنبول محددة إقامته، و يرحل عن عالمنا في 2 مارس 1895 عن عمر يناهز 64 عاما.
لمتابعة أهم وأحدث الأخبار اشترك الآن في خدمة مصراوي للرسائل القصيرة للاشتراك...اضغط هنا