كتبت - دعاء الفولي- إشراق أحمد:
اتّخذت وضع الجنين، تدثّرت بغطاء أعطاه لها أحدهم، فلربما يُدفيء جسدها بعضه.انكمشت أكثر على نفسها، ولم يتراجع الصقيع الذي يضرب بلا هواده؛ تجمدت الكلمات فلم تستطع التوسل للعابرين الذين يمرون عليها وهم مُعرضون كي يُحضروا لها مساعدة؛ كانت بين ظُلُمات ثلاث، ظُلمة الليل، والوحدة، والغطاءات التي لا تبعث حرارة، ولم يبقَ شيئا ليساعد إلا عينان مغمضتان تتخيلان الدفء كأنه موجود.
وبصباحٍ حجبت شمسهالسُحُب المتشابكة في السماءِ؛ لم يتوقف هطول المطر منذ الليل، آوى كل من له مكان إليه، لكنه خرج من منزله للعمل مُرغمًا، يتنفس فيرى أنفاسه على هيئة بُخار، يفْرك يداه ببعضهما قبل أن يضعهما على مقبض العربة البارد، ينحني على الأرض يلتقط بضع وريقات صغيرة مبتلّة بالمياه، تلمس حبيبات المطر البدلة الخفيفة التي يرتديها، فتخترقها لجسده، ويمر تيّار هواء بنفس الوقت فينتفض من فرط البرودة كمن أصابه المَس، ويتابع العمل.
خطوات تمر نهارًا وليلًا على مثل هؤلاء، الذين قد تنتهي بهم الحياة في أماكنهم، يقابلون بها مَن يتوقف إما بسؤال أو كلمة أو مساعدة، ومَن تكتفي نظراته كخطواته بالعبور، وأخيرًا مَن يكونونبالنسبة له كالهواء لا يحرك له جفن.
''مصراوي'' رصد لقطات لمَن لفظتهم الطرقات مع زمهرير أيام الشتاء إما لحياة لم يجدوا لها بديل أو عمل يعفهم عن ذات اليد وحاجة السؤال .
(عبد الله وغانم)
عربتان خضراواتان شكلهما مُميز، تعرفهما بسيماها، فوقهما بضع أدوات نظافة؛ مقشة قديمة، قطعة خشب أشبه بجاروف لحمل التراب، وقطعة من الكارتون للغرض ذاته. أما صاحبا العربتين، فظلا على مقربة من بعضهما البعض، يتقدم أحدهما، فيلحقه الآخر، يذهب الأول ليرفع بعض القمامة من الأرض فيتطوع الثاني بدفع عربته، كانا كأخَوان في الشقاء كما هما في المهنة.
عبد الله وغانم، الأول عُمره لا يتجاوز الثامنية والأربعين، والثاني له من العمر 54 عامًا؛ ومع ذلك يعملان سويا كعاملي نظافة، بمنطقة الجيزة، ولا يتحركان إلا بجانب بعضهما البعض.
سنوات طويلة قضاها كل منهما في المهنة، عملا في أكثر من مكان، فمن منطقة أبو النمرس إلى الهرم إلى إمبابة، رغم بُعد مسكنهما عن مكان العمل، فعبد الله يقطن في مدينة القناطر، يأتي منها يوميًا قبيل موعد استلام عمله في الثانية عصرًا، ليبقى في العمل حتى التاسعة مساءًا، ويأتي غانم من مسكنه بالعياط في نفس الوقت.
البرد القارس وحتى الأمطار ليس مبررًا لجلوس أحدهما بمنزله رغم عملهما خلال الليل، فهما في النهاية موظفان حكوميان حسبما قال غانم .
''بيدونا بدلة في الصيف، وبدلة في الشتا''، قال غانم، مضيفًا أن الشركة تعطيهم ''بلوفر'' شتوي، لكنهما لا يرتديانه لأنه ''بيضايقنا واحنا بنشتغل''، فيكتفي كل منهما ب''سديري'' أسفل الزي الرسمي، خلاف حذاء بلاستيكي طويل الرقبة يحصلان عليه من الشركة مع دخول الفصل.
(ماجدة)
ماجدة السيد إحدى ساكني الرصيف؛ أربعة جدران خشبيةوهبها لها '' فاعل خير'' بالرصيف المقابل لكوبري الملك الصالح بمصر القديمةاحتمتبها هي وزوجها منذ ما يقرب من 20 عامًا، وذلك بعد أن كانت تسكن الرصيف على قطعة قماش بالية تفترشها.
'' بنتغطى بالبطانية دي اللي ادها لنا ولاد الحلال هنعمل إيه'' قالتها السيدة التي أعيتها الطرقات وصقيعها، فلم تعد تقوى على الحركة بعيدًا عن ذلك المقعد البالي الذي أعطاها إياه أيضًا '' ولاد الحلال'' .
بضع جنيهات، بقايا طعام، وأحيانًاعلب مناديل أو صندوقحلوى ترتزق منه، يجود بهاأحد المارة على ماجدة، وهذا كل زادها طوال سنوات الطرقات التي لم تجد وزوجها وأبناءها الخمسة غيرها بعد قرار إزاله مسكنهم بمنطقة '' الفواخير'' قرب مسجد عمرو بن العاص، يزيد عليهم''بطانية'' تلتحف بها، وغطاء بلاستيكي تضعه على سقف الجدران الخشبية وهذا كل زادها بالصقيع .
لم تعد تريد السيدة الخمسينية سوى ما يعينها على الرزق الذي عبرت عنه بإشارة يدها إلى فمها '' حاجة ناكل بها''، فلا منزل تريد أن يجود به أحد لا تعرفه خشية أن يحدث كما وقع من قبل '' ناس كانوا عايزين يقعدونا في أوضة من اللي بياخدوا فيها إبر وبرشام'' ؛ تحدث ماجدة عن معاناة سكن الشارع فليس كل من يأتي باسم فاعل خير يقصده، وماجدة لا تريد رغم مشقة سكن الشارع أن '' اتبهدل أنا وجوزي'' .
(رضا)
ارتدى ملابس العمل الرسمية، واضعًا فوق رأسه غطاء شتوي، ممسكًا ''فوطة'' قديمة يتحرك بها سريعًا بين السيارات، يدفع تلك بكل ما أوتي من قوة؛ ليُفسح المجال لأخرى كي تركن، يُشير بيده للسائق لإرشاده للمكان المُخصص، ولا يخلع عنه ابتسامته طالما يتعامل مع الزبائن.
رضا، اسم يظهر على ملامح صاحبه ذو الأربعة والخمسين عامًا، يعمل بجراج الإسعاف بمنطقة وسط البلد، لا يذهب إلى مكان آخر طوال مواعيد العمل الرسمية من الثالثة عصرًا وحتى الحادية عشر مساءًا، حتى وإن كانت الحالة الجوّية لا تسمح له بالتواجد في الشارع.
''يارب الدنيا تنزّل إيه، أنا واقف مكاني''، قال رضا، موضحًا أن الصقيع والمطر ليسا في الحسبان، ف''الزبون عايز يطلع بالعربية.. ملهوش دعوة''.
ملابس الرجل الخمسيني ليست مختلفة صيفًا أو شتاءًا، فقط بدلة واحدة وعليه أن يزيد كم الملابس أسفلها، أما دون ذلك فهو لا يملك شيئا.
يأتي رضا يوميًا من منطقة الشرابية إلى عمله الصباحي بحي الموسكي، ثم ينتهي ليبدأ دورته الثانية في الجراج، فالعملان سويًا يساعدان على نوائب الحياة، خاصة مع وجود ثلاثة أولاد له، يربيهم.
أكبر مشكلة تواجه رضا ليست الشتاء أو المطر، بل عدم اهتمام الجهات الحكومية أحيانا بإزالة آثار المطر عن الأماكن التي تستحق ذلك؛ ذاكرًا موقف حدث معه عندما امتلئت الشوارع بمياه المطر، وامتلأ جزء من الجراج بها، وكان عليهم صرف الماء لتسهيل دخول وخروج السيارات.
وبعد عدة محاولات للتواصل مع حي الأزبكية التابعة له المنطقة للحضور ورفع المياه، اكتشف رضا وزميله عدم توافر ماكينات شفط كافية في الحي، فتعيّن عليهما رفع المياه بنفسيهما، وأضاف '' قعدنا خمس ساعات ننزح في المياه أنا وزميلي، روّحت البيت رجلي وإيدي مش حاسس بيهم من كتر الساقعة''.
لم يتوقف الوضع عند ذلك؛ فالعمل بالجراج شُل تمامًا في هذا اليوم، على حد قوله ''ماسترزقتش اليوم ده خالص''.
(حميدة)
حميدة محمد، في العقد الخامس من العمر، ملامح وجهها الهادئة لم تتناسب مع صخب الشارع والازدحام بميدان الجيزة، حتى إنها لم تقوَ على الجلوس أرضا، فاتخذت لها مقعدًا بجانب أحد بائعي الملابس، ولولا مرض ابنها الوحيد، لما نزلت للعمل.
جلست وعلى ركبتيها صُندوق صغير، مملوء بدبابيس مُلونة، وبعض عِلب المناديل الورقية تبيعها، تتكسّب منها بعد أن جاءت من منطقة الصف بحلوان للجيزة لتعمل.
رغم أنه شتاءها الأول في الشارع، الجو لم يمنعهاالعمل يوميًا من التاسعة صباحًا وحتى السابعة مساءًا، لا يردعها شيء أن تعود للمنزل بجنيهات ولو معدودة إلا المطر؛ فهي ''لما الدنيا بتمطر مش بنزل، هعمل إيه طيب؟''.
الحال قبل انتقالها الجيزة كان أفضل ماديّا، لكن الخدمة في المنازل بمنطقة الصف، أرهقتها، ف''الشغل في الشارع أحسن، على الأقل قعدة مكاني''.
(شعبان)
'' لا شغله ولا مشغلة المطرة تمطر أقعد هنا أو جوه البيت وكله بأمر الله '' هكذا حال شعبان الذي اتخذ مكانه على مقعد بلاستيكي أمام منزله ببطن البقرة في مصر القديمة بينما حوله انتشر الوحل الطيني الناجم عن الأمطار؛ قضى الرجل الثمانيني، ستين عامًا من عمره في العمل '' عربجي'' صقيع هذا الشتاء يختلف عن سابقيه '' السنة دي أصعب من أي سنة لكن هنعمل إيه''؛ فضيق الحال مصير كل شتاء مع قليل من الصحة والمال خاصة منذ انتقاله إلى منطقة بطن البقرة بعد أن كان يسكن قرب مسجد عمرو بن العاص '' من نهار ما جيت هنا والحمد لله ما بنشوفش غير المدمس والقوطة '' ، وكثير من الوحدة التي بات بها شعبان بعد ترك زوجته وأبناءه له .
البكاء رفيق الرجل الثمانيني كلما تذكر وحدته وخلو جيبه من حفنة جنيهات تعينه، والدعاء سبيله لتخفيف ألمه وحزنه في ليالي الشتاء وغيرها من أيام العام '' الله هو اللي بيرزق ويرضي'' .
'' محتاج ربنا يراضيني ويكرمني بنعمته ورحمته'' هذا كل مبتغى شعبان على تلك الأرض التي ما إن تكسيها الأمطار تتوقف حياه الرجل باضطراره التوقف عن العمل حتى تجف، فإن جفت عادت له فتات الحياة.
(فريدة)
عند شارع يوسف الجندي بوسط البلد، حينما تشيح بوجهك عن مكتبة الجامعة الأمريكية وتصوب عينيك تجاه مقهى اتخذ مكانًا محاذيًاينير ظلمات الشارع الجانبي؛ هنا حتمًا ستبصر أريكة باليةً خَشَبُها، تتوسط حاجزين كذلك من الخشب وآخر بلاستيكي عند زاوية ذلك الشارع، التحف عليها شخص بغطاء نوم لا يتحرك له ساكنًا؛ إنها فريدة.
لو لم تكن من ساكني الشارع سيكون أول تفكير يخطر لك أن الشخص المستلقي رجل، وإذا كنت من قدامى ساكني المنطقة فإن لم تعرف فقط هويتها، ستكون ممن يحملون شيء من التفصايل المنقولة عنها.
قبل ما يقرب من 25 عامًا جاءت فريدة للمنطقة تفترش ذلك المكان بدلًا من بائع الأنتيكا والروبابكيا الذي مات وقت أن كان خلفية الرصيف عمارة سكنية؛ شابة تحمل قدرًا من الجمال واللهجة المتزنة بدا فيها تلقي التعليم خاصة عندما تتحدث بالفرنسية مع طلبة الجامعة الأمريكية، هكذا شهدها كارم عامل الجراج المقابل لأريكتها، قبل أن يظهر عليها علامات الإضطراب وعدم الاتزان النفسي ''هي مش طبيعية في أوقات بتكتئب وماتتكلمش مع حدوأوقات تانية تتكلم عادي'' .
من منطقة الضاهر وفدت السيدة الستينية الآن، وظلت تسلتقي الأريكة التي منحها إياها أهل المنطقة، غابت عنها لفترات كانت تصطحب بها مَن يوفر لها سكن بدور المسنين لتعود إليها بانتهاء المبلغ المخصص لإقامتها حسبما قال كارم، الذي أوضح أن لدى فريدة أهل؛ ابنة ولديها أخت ذهب إليها وقت الثورة لتحتمي فريدة بشقتها بدلًا من الشارع لكنها رفضت استقبالها بدعوى أنها تسبب المشاكل .
فريدة في ليل الشتاء أو الصيف تستلقي تلك الأريكة متلحفة بالغطاء تفاديًا لنور عمود الكهرباء الذي يؤذي عينيها التي خارت قواها جراء مرض السكري، وكذلك إحدى رجليها التي تأذت إثر حادث سيارة ولا زال بها جرح مفتوح قرابة العام، يبكيها بين الحين والآخر ولا يطيبه إلا عابري السبيل من الأطباء .
ورغم زمهرير الشتاء وسكن الطريق إلا أن فريدة إذا تحدثت لا تلفظ ببنت شفةٍ عن شيء تريده وإذا أعطى لها أحدهم شيء شعرت فيه المغالاة ولو كان مبلغ مالي ترفضه حسبما قال كارم، وكذلك إن كان لا يناسبها '' مرة حد جابلها بطانية رفضت تتغطى بها عشان لونها أحمر''، وإن كانت هذه الأيام قليل المارة هم مَن يلقي لها بالًا '' الناس مابقتش عندها حاجة فايضة تديها لحد، ربنا يصلح حال البلد'' تحدث كارم دعايًا الله أن تعود الرحمة بين الناس من أجل فريدة وَمن على شاكلتها.
لمتابعة أهم وأحدث الأخبار اشترك الآن في خدمةمصراويللرسائل القصيرةللاشتراك...اضغط هنا