كتبت - إشراق أحمد:
لم يتكلف الأمر عناءً للوصول إلى شارع ''المستودع'' بمنطقة البساتين؛ فقط أن تطأ قدماك نهاية شارع ''فرج يوسف'' لتأتيك معرفة وصف المكان على ألسنة المارة إذا سألت.
بين عمارات سكنية وجوار مقهى بدا باب حديدي مُغلق، اعتلاه لافتة تمكن مرور الزمن من واجهتها لكنه لم يؤثر على إدراك رؤيتها ''شركة الغازات البترولية.. توكيل البساتين القاهرة''، ورغم أنه ليس المخزن الوحيد لـ''الأنابيب'' بل الأصغر على حد تأكيد الأهالي؛ حيث يقع آخر قرب شارع ''فايدة كامل'' خلاف اثنين آخرين بمنطقة دار السلام، غير أنه لم يخل من افتراش حاملي '' الأنابيب'' الفارغة.
أمام الباب المغلق وجواره كان جمع من الناس غلب عليه النساء؛ رغم صغر عدده إلا أنه لازم المكان وسط مارة يلتفت بعضهم إليهم، بينما لا يعبأ آخرون لاعتياد المشهد مع حلول كل شتاء، وإن تقلص العدد عما كان شتاء العام الماضي، خاصة بعد دخول الغاز الطبيعي إلى أغلب أرجاء المنطقة إلا أن بعض الأهالي مازالت تحت رحمة أزمة متكررة.
ضيق وقلق وغضب مواطن أمام ''مستودع''
على كومة رمل جلست واضعة يدها على وجنتها، وأمامها ما اصطف من ''أنابيب'' لها ولزملاء ''الانتظار''؛ ''أم أحمد'' تركت ولديها أحدهما بالمدرسة، بدا القلق عليها لعدم معرفتها بعد عن عودته إلى المنزل؛ فمنذ التاسعة صباحًا لازمت مكانها تعيد محاولة للحصول على ''أنبوبة'' ممتلئة بعد أن فشلت باليوم السابق ''إمبارح قعدت زي كده ومخدتش حاجة، بتاع المخزن كان يشيل البلاستيك اللي عليها ده ويطلعها ويقول دي فاضية ويحملها على العربية تتباع وإحنا الأهالي قاعدين''.
''أم أحمد''.. يومان من البحث
لم تتردد ''أم أحمد'' على المخزن قبل ثلاثة سنوات رغم سكنها الذي لا يبعد عنه سوى شارع واحد؛ فقبل ثورة يناير كانت تنتظر العربات التي تجوب المنطقة لبيع ''الأنابيب'' متغاضية عن سعرها الزائد، لم يكن يتعدى جنيهات قليلة على حد قولها '' كانت بـ6 جنيه نهار ما تغلى تبقى بـ8 جنيه، أقول خلاص مش مشكلة''، بينما تواجه السيدة الثلاثينية السعر المبالغ لـ''الأنبوبة''، والتي لا تجدها في الوقت ذاته ''دلوقتي يقولك 40 جنيه ومفيش حد بيعدي بها حتى مفيش ناحيتنا خالص''.
''في الأزمات اللي قبل كده كنت باجي لكن كان بيدينا كلنا، لكن امبارح وزع كام نفر وأسأله يقول لي ادخلي خدي من جوه، طيب أنا أجيب جوزي ولا ابني أموته عشان أنبوبة''.. هكذا تحدثت ''أم أحمد'' عن ساعات جلوسها أمام المخزن التي ضاعت هباءً باليوم السابق، مستنكرة الرضا بسعر ''أنبوبة'' المخزن المنخفض عما سواه؛ حيث وصل لـ12 جنيه مقابل ساعات الانتظار تلك وعدم العدل في التوزيع ''امبارح حمل عربية السريحة وسابنا ناكل في بعض''.
''ياريت توصلوا صوتنا لحد يحس بنا، الشعب اللي متمرمط ومتبهدل ده ''.. قالتها ''أم أحمد'' قبل أن تفزع بقدوم ابنها وإخبارها أنه لم يذهب أحد لإحضار أخيه الأصغر ''محمود'' من المدرسة حتى تلك الساعة، فدعته للوقوف بطابور الرجال الأقل عددًا بينما تذهب لإحضار شقيقه ''تقعد أنت جنب الأنبوبة وأنا أروح، أحطك في طابور الرجالة''.
''أم وليد''.. سنة أولى ''أنبوبة''
لا يختلف حال ''أم وليد'' عن زميلتها في الانتظار ''إحنا مش عارفين هناخد ولا لأ''، بينما جلست على الرصيف المجاور للمخزن، منتقلة من مكانها الأول بين الجمع المنتظر تاركة ''الأنبوبة'' الفارغة لتحجز دورها بـ''الطابور''، ورغم أن ذلك يومها الأول في سعيها لتغيير ''الأنبوبة'' إلا أنها اعتادت المشهد مع حلول كل شتاء على اختلاف حدة الأزمة كل مرة.
''أم وليد'' كحال غيرها من المنتظرين لا تعرف للمخزن ميعاد للفتح أو الغلق؛ فالأمر مرتبط بمجيء عربة اسطوانات ''البوتاجاز'' غير المعلوم ميعاد قدومها نهارًا كان أم مساءً، لكن عزائها الوحيد في تلك ''الأنبوبة'' التي تكفي حاجتها لـ28 يوم تبعد فيهم عن ساعات الانتظار.
''بهية''.. معاناة جميع أفراد العائلة
''بهية'' ضاق بها الانتظار منذ الثامنة والنصف صباحًا، بينما تقترب الساعة من الخامسة دون أن تبرح مكانها؛ فهبت متحدثة عن الأيام الثلاث التي عانت خلالها لتحصل على ''أنبوبة''؛ والتي لم تحصل عليها مع تبادل حضور أفراد عائلتها كل يوم ''ثلاثة أيام دايخين عشان نغير الأنبوبة مش عارفين، أول امبارح جت بنتي وأخوها، وإمبارح جت هي وأختها، والنهارده جيت أنا وهي ، ما يرضيش ربنا كده كل شوية يقول لنا العربية جايه''.
حضرت مع زوجة نجلها تاركة محل ''الخبيز'' مصدر رزقها منذ السادسة صباحًا، بعد أن مر على غلقه أربعة أيام؛ ''عواطف'' فضلت الحضور بنفسها أملًا في الحصول على ''أنبوبة'' بدلًا من إهدار يوم عمل آخر على نجلها الذي سبق له المجيء وعاد صفر اليدين ''بعت ابني عطلته يوم ومعرفش يجيب حاجة''.
''يقولوا لنا إحنا زيكم، ويجوا يحملوا للسريحة وإحنا هنا ناكل تراب''.. بنبرة منفعلة قالتها السيدة الخمسينية، شاكية من تعامل موظفي المخزن الذي تعتبره السبب في ارتفاع سعر ''الأنبوبة'' ليصل إلى 45 جنيه، بينما لا يستطيع عامل ''اليومية'' الذي يرزق بـ30 جنيه على أقصى تقدير أن يتحمل تلك التكلفة؛ فلا يجد أمامه الجلوس في الشارع كحالهم ''الحرامية والبلطجية يبلطجوا، لو حد من الكبار دول يجي يقعد مراته كده زي ما الناس دي قاعدة''.
''أول يوم وآخر يوم''.. قالها ''أحمد''، شاب عشريني، حمل ''الأنبوبة '' الفارغة على ''موتوسيكل'' استند عليه بالرصف المقابل للمخزن، انتظارًا أن يفتح بابه، آملًا ألا يزيد انتظاره في اليوم الأول له أمام المخزن أكثر من الساعة التي مرت.
''كلنا غلابة'' بعد جلوسها كغيرها منذ الصباح الباكر جوار باب المخزن؛ هبت ''إيمان'' صائحة بتأكيد معاناة الجميع جراء الأزمة '' السريحة واللي بياخدوا''، كل منهم يريد أن يكفي حاجة بيته في ظل أن ''الدنيا غلا، كل واحد فاتح بيت كل واحد معاه أهله''، معتبرة أن السبب الأساسي تُسؤل عنه شركة الغاز وليس عاملين المخزن ''أنتوا تروحوا شركة الغاز نفسها تقولوا لهم فكوها على الناس''.
وترى ''إيمان'' أن رفع ''السريحة'' سعر الأنبوبة ليصل إلى 30 جنيه ''غصب عنهم، هم بيطلعوا بها من المخزن بكام بتتحصل على 20 جنيه؛ هياكل منين ويفتح بيت منين''، معتبرة أن الجميع في حالة انتظار، مشيرة إلى الجالسين على المقهي وبعض الجالسين على الرصيف المقابل للمخزن ''قاعدين زينا قاعدين يحرقوا في سجائر وشاي والله عيل شارب 12 كوباية شاي لحد دلوقتي، العربية مجتش هيدفع حق الشاي ده منين''.
أمين مخزن في انتظار ساعة العمل
خطوات قيلة عن المخزن بالجهة المقابلة للمقهى الملاصق له، كان ''رجب''، أمين مخزن البساتين، ينتظر هو الآخر وصول عربة '' الأنابيب'' حتى تبدأ عملية التوزيع.
''رجب'' نفى الاتهامات الموجهة لعاملين المخزن بأنهم سبب الأزمة، وأكد أن حالهم كمفترشي أرض محيط المخزن وأن السبب الحقيقي لدى الشركة الداعمة وليس المخازن الموزعة ''أدينا مستنين زي الناس بنستى العربية هنعمل إيه، سبب الأزمة الأساسي من فوق لكن إحنا زي الناس دي''.
''السريحة''.. بين الاتهام والانتظار
كل منهم يأتي مستقلًا دراجته، ومع اقترابه من المخزن على الرصيف المقابل للمقهى يتركها جانب غيرها التي وضعها أصحابها بجوار الحائط؛ يطلق عليهم الأهالي ''سريحة'' كل ما يتمنون الحصول عليه 4 أسطوانات، وعلى أقصى تقدير هي كل ما تتحمله الدراجة، آملًا في بيعها باليوم ذاته علهم يلحقون بالحمولة الثانية التي تصل للمخزن، هكذا كان الحال بينما طالت ساعات انتظارهم هذه الأيام لعربة واحدة تصل المخزن عن التجول بالمناطق طارقًين بالمفتاح ''الإنجليزي'' على ''الأنبوبة'' بحثًا عن محتاج لها.
عربة واحدة تحمل 350 ''أنبوبة''، هي حصة مخزن ''البساتين''، على حد قول ''مجدي''، أحد بائعي ''الأنابيب''، الذي جلس جوار دراجته في انتظار تلك العربة غير المعلوم ميعاد وصولها.
37 عامًا لم يفارق ''مجدي'' تلك المهنة التي أوضح أن العاملين فيها غير عربات ''النصف نقل والكارو'' العاملة في بيع ''الأنابيب''؛ فالسعة لعامل الدراجة أقل، مؤكدًا أن سعر الأنبوبة لم يصل لذلك الرقم الذي تقوله الأهالي، فأقصى مبلغ باع به 17 جنيهًا بينما تلك العربات هي ما تلجأ للزيادة ''بس هي فين الأنابيب أصلًا''.
يعتبر ''مجدي'' أن تلك الزيادة حق ساعات الانتظار الطويلة التي يمضيها منذ الصباح الباكر قادمًا من الجيزة؛ حيث يقطن في حين لا يوجد ضمان للحصول على حصة يومية يتكسب منها عامل دراجة ''الأنابيب''.
''كثير من الناس اللي قاعدة دي بوابين يجوا ياخدوا الأنابيب ويبيعوها لسكان العمارة أزيد بكتير''.. هكذا تحدث ''مجدي'' عن أحد أسباب الأزمة، موضحًا أن ذلك يقلل فرصة حصول آخرين على ''أنبوبة'' خلاف مساهمتهم في ارتفاع السعر بشكل مبالغ، ومع ذلك ظل تأكيد الرجل على أن صلب المشكلة يكمن في شركة الغاز ذاتها التي لا تحل المشكلة رغم تكرارها.
''كانت الأزمة بتحصل في العيد الكبير، لكن إحنا دلوقتي بعده بكتير يبقى الأزمة طلعت ليه في الوقت ده''.. قالها ''مجدي'' معتبرًا أن ما يحدث أزمة مفتعلة رغم تأكيده على وجود تجاوزات بالمخازن ''هو في حاجة مفيهاش تجاوز''، مشيرًا إلى أن الفترات التي شهدتها أزمة ''البوتاجاز'' شتاء ما بعد ثورة يناير مباشرة.
حديث الحكومة بالنسبة لـ''مجدي'' عن تلك الأزمة وغيرها يعني المعني العكسي ''الحكومة كلامها دايمًا العكس، لو قالت مفيش أزمة يبقى في لو قالت هتتحل قريب يبقى لسه قدامها شوية''.
لمتابعة أهم وأحدث الأخبار اشترك الآن في خدمة مصراوي للرسائل القصيرة للاشتراك...اضغط هنا