كتبت - نوريهان سيف الدين:
أعمالهم صنعة لا تملك إلا أن تقف أمامها مبهورًا بجودتها ودقتها، لوحات ترسمها دقات مطارقهم وأدواتهم الصغيرة تارة على ''صينية نحاس''، و تارة أخرى على ''مشكاة معدنية'' تشع بالضوء في ليل شرقي ساحر، مهنة حافظت على رونقها على مر السنين، لكنها تعاني الاندثار الآن وانتشار الدخلاء عليها، واللجوء إلى الأعمال ''المصنوعة جاهزًا'' بدلًا من تلك المصنوعة ''يدويًا''، والتي تمتاز بدقتها وغلاء سعرها.
''أحمد'' شاب عشريني، لا تكاد ترى وجهه المنكب على صينية نحاسية، انهمك في الطرق عليها مستخدمًا ''أزميل وشاكوش صغير''، ليرسم من خياله وجه الملك ''توت عنح آمون''، تلك الأيقونة الفرعونية الخالدة، والمحببة والرائجة لدى عشاق التراث والصناعات النحاسية من المصريين والأجانب.
على مدخل شارع ''المعز'' وبالقرب من ميدان ''بيت القاضي''، استغرق في عمله وفي الخلفية صوت ''الست أم كلثوم'' ينبعث من الراديو، وعلى الجدار خلفه ''تحف فنية'' أنتجها ''أحمد صابر''، وقف مزهوًا بها يحكي قصة عشقه لصنعته ''المصريين بيستخدموا النحاس من أيام الفراعنة، ويمكن من قبل كدا كمان، وهما أول ناس شكلوا النحاس سواء في أدواتهم الشخصية أو حتى في التحف، وده كان قبل ما الملوك تستخدم الذهب وتدفنه معاها في المقابر''.
يستكمل ''أحمد'' حكاية النحاس والمصريين، فيقول: ''زمان مكانش فيه استلنس وألمونيا، كانت البيوت كلها بتستخدم النحاس وجهاز العرايس كله بيكون نحاس بداية من ''طشت الغسيل'' وصواني التقديم وكنكة القهوة وبراد الشاي وحتى ''قدرة تدميس الفول'' كانت نحاس، ولأنه غالبًا بيكون للعروسة فبترسم عليه عشان يزين البيت''.
مهنة الحفر على النحاس توارثها من خاله وجده لأمه، فهو يعمل بها منذ كان طفلًا، وخاله الذي علمه الصنعة ظل يعمل فيها لأكثر من نصف قرن، و عاصروا كيف بدأ استغناء البيوت عن النحاس واستبداله بالألمونيوم ثم الاستانلس ستيل، فقال: ''لحد مثلًا 40 سنة فاتت الكل بدأ يبيع النحاس، والناس كانت إما بتيجي هنا تبيعه لورش الدهب ويتسيح، أو كانت بتبيعه بالكيلو لبياع الروبابيكيا، وكان البياع بيفصل الصواني المحفورة والمكاحل وحاجات كتير على جنب ويبيعها لبياعين الأنتيكات والتحف''.
سنوات ظلوا يعملوا فيها في حفر الصواني سواء لرسم النقوشات الفرعونية أو حتى في رسم الآيات القرآنية، وكانت منتجاتهم تباع بأعلى الأسعار، و لها متذوقيها ومقدرين لأسعارها.
''الصينية مقاس 20 سم كان بيوصل سعرها من 5 سنين لحوالي 150 جنيه، والصينية الكبيرة قطرها متر كانت بتوصل لألف جنيه على حسب الرسمة والدقة في الحفر''.. قالها ''علي''، صاحب أحد محال النحاس.
أخطر منافس للأعمال اليدوية والحفر على النحاس كان ''الصيني''، ووصف ''أحمد'' الحال قائلًا: ''الصين دخلت في كل حاجة بداية من الولاعات لحد الآثار، وسهل جدًا يعملولك حتة أنتيكا متفرقهاش عن الأصلي ويبيعوهالك بربع التمن، وده بيأثر علينا وعلى إنتاجنا، والناس بتسترخص أسعارهم''.
وكما ظهر ''الاستنلس'' منافسًا للنحاس في المقتنيات المنزلية، ظهر أيضًا في الأعمال الفنية والحفر والتحف؛ ففي شارع المعز القريب من الجامع الحسين ستجد بعض ورش صغيرة في خان الخليلي و''رَبع السلحدار'' المجاور لجامع الحسين، إلا أن الأكثرية ستجدها لأعمال ''الاستنلس المفرغ'' المستخدم في الإنارة، وهي مزجت بين الحفر والنقوشات النباتية والإسلامية، وبين الاستخدام العملي.
''شاهين''، صاحب محل لبيع تلك المنتجات، قال إنها غالبًا ما تنتج في ورش قريبة من الحسين، ويستخدم في صنعها ''اسطمبات جاهزة'' ويدخل ''الكمبيوتر'' في صناعتها، وأن سعرها في المتناول وليس باهظًا كمنتجات الحفر على النحاس اليدوية، وسعر القطعة يبدأ من 50 جنيهًا ويصل إلى 250 جنيه لوحدة الإضاءة الكبيرة.
لمتابعة أهم وأحدث الأخبار اشترك الآن في خدمة مصراوي للرسائل القصيرة للاشتراك...اضغط هنا