كتبت - نوريهان سيف الدين:
مهنة انقرضت منذ أكثر من نصف قرن من الزمان، إلا أنك قد تستغرب إذا علمت أن أقدم صناع تلك المهنة لا يزال يمارسها حتى اليوم، ويحرص كل الحرص على الاستمرار فيها، لما تحمله من ذكريات جميلة وسيرة تاريخية، سواء للصنعة نفسها أو لمكان العمل.
في مدخل شارع ''الغورية'' بمنطقة الحسين، وعلى مقربة من الجامع الأزهر، وبين عشرات من تجار الأقمشة والمفروشات الذين يملئون الشارع الضيق الواصل حتى ''بوابة المتولي''، تجد دكانًا مستطيلاً طويلاً يعود لعام 1913، لا يزال يتكسب رزقه من صناعة ''الطرابيش''.
''مكبّس نحاسي'' قديم، وطاولة خشبية منقوش عليها ''النجمات الثلاث''، رمز العلم المصري منذ عهد الملكية القديمة، ورجُلين في منتصف الخمسينات من العمر يعملان في إنجاز ''طلبية''، مخصص أكثرها لرجال الأزهر الشريف، وبعضها لمحلات ''البازار'' السياحية في خان الخليلي.
''أحمد محمد الطرابيشي''.. أقدم صناع الطرابيش في مصر والوطن العربي، والوحيد في مصر الآن الذي لا يزال متمسكًا بحرفته الموروثة منذ الأجداد ''أنا بشتغل في الصنعة دي من وأنا طفل صغير، يعني من أكتر من 40 سنة، وفضلت اتدرب فيها حوالي 5 سنين ومعرفش مهنة غيرها، وعلى الرغم إني بدأت فيها في وقت كان الطربوش بيتلغي بعد ثورة يوليو، لكن أبويا وجدودي عاصروا باشاوات وبهوات، ومكناش بنلاحق على الطلبيات يوميًا''.
''الطربوش''.. كان مظهرًا هامًا للوقار والمكانة الاجتماعية في مصر حتى بعد ثورة يوليو 1952 بسنوات قليلة، دخل إلى مصر مع الفتح العثماني، وتحولت العمائم التاريخية القديمة بعمر الفتح الإسلامي، إلى هذا الغطاء الجديد ذو الإرث التركي ''الطربوش''، حتى أن والي مصر ''محمد علي باشا''، حرص على إنشاء مصنعًا له في مدينة ''فوة'' بالدلتا، وجلب من أجلها ''صنايعية مغاربة''، وكان الإنتاج مخصصًا لجنود الجيش المصري وقتها.
انتشر ''الطربوش'' بين طوائف الشعب المصري بداية من التلميذ في مدرسته وحتى ''الأفندي'' والموظف في ديوانه، وكان أيضًا لباسًا يميز ''عِلية القوم'' من ''الباكاوات والباشاوات'' وحتى ''أفندينا الخديوي''، وفي عهد الخديو ''عباس حلمي الثاني'' تحولت مصر من استيراد ''الطرابيش'' إلى الإنتاج المحلي، وانطلق ''مشروع القرش''، وتبرع فيه كل مصري بمبلغ ''قرش واحد''؛ لإنشاء مصنع للطرابيش، واستطاع القائمين على المشروع جمع أكثر من 25 ألف جنيه آنذاك.
يصف ''أحمد الطرابيشي'' كيفية صناعة الطربوش فيقول: ''بعدما ناخد مقاس الزبون ونعرف هنستخدم أي قالب نحاس، بنبدأ نقص القماش الجوخ على مقاس القالب، وبنستخدم الجوخ تحديدًا عشان متين وبيستحمل، وبعدها بنحط طبقتين واحدة خوص والتانية جلد عشان الطربوش يثبت، وفي النهاية بنحط ''الزٍرّ''؛ وهو عبارة عن شراشيب من الخيط الأسود، وفي النهاية بنكوي الطربوش ويكون جاهز''.
''بيبدأ من 15 لحد 60 جنيه، وأغلب الزبائن حاليًا الخواجات، وبيشوفوه فلكلور مصري قديم، وطبعًا طلاب ورجال الأزهر، وبيلبسوه تحت العمامة الأزهرية''.. هكذا تحدث ''أحمد'' عن أسعار ''الطرابيش'' والمقبلين على شرائه في مصر هذه الأيام.
لمتابعة أهم وأحدث الأخبار اشترك الآن في خدمة مصراوي للرسائل القصيرة.. للاشتراك ... اضغط هنا