كتبت - دعاء الفولي:
صندوق كبير حمله الحشد على الأكتاف، همهمات تخرج من الأفواه وأصابع ترتفع بعلامة التوحيد، والوجوه ابتسم بعضها رغم قسمات الحزن التي لم تبرح الأعين، أما الأنفس فكتمت العويل ولم يخرج منها سوى بكاء ممتزج بنحيب خفيف ولم يعوض رغبة الصراخ لفراق الأحبة سوى الصراخ الغاضب بهتاف ''يسقط يسقط حكم العسكر''.
جنازة تحولت إلى مظاهرة جديدة، وبينما يعلو صوت الناس بالهتاف كان جسد ''بلال جابر'' الذي انتظر ساعات بعد الموت على سريره في المنزل، مسجيًا داخل الصندوق المحمول ومتجهًا إلى مثواه الأخير.
تسعة عشر عامًا كان عمر ''بلال''، الذي قُتل أنفاسه الأخيرة، الجمعة الماضية، في مظاهرات منددة بـ''حكم العسكر'' بشارع عباس العقاد، بعدما استقرت رصاصة في قلبه ليلفظ أنفاسه الأخيرة بعد فترة وجيزة.
''بلال كان لسه مخلص ثانوية عامة، وكان متفوق في دراسته، ودخل هندسة عين شمس''.. قالها ''عمار'' شقيقه الأكبر؛ فالتفوق كان عنوان ''بلال'' في كل شيء بداية من الدراسة وحتى حفظه القرآن الكريم في سن الحادية عشر.
قصة ''بلال'' ليست مختلفة عن أبناء جيله الذين لحق بهم؛ فالمظاهرات لم تبرح حياته منذ بداية ثورة 25 يناير، وحتى انتقاله للرفيق الأعلى حسبما روى ''عمار''، موضحُا أنهم ''كنا بننزل من وقت الثورة كل يوم سوا وفي الأحداث اللي بعدها لحد ما اتصاب بدالي في فض رابعة''.
رصاصات ''الخرطوش'' التي أصابت كتف ''بلال'' بينما كان يحمي شقيقه الأكبر لم تثنيه عن النزول بعد ذلك، حتى أنه كان يسخر من إصابته ويهون من الأخطار ويعبر عن ذلك بكلمات من قبيل ''و لاحاجة'' و''مش مهم''، واستمر خروجه في المظاهرات حتى يوم وفاته.
''كانوا في مظاهرة زي كل جمعة وكان في عربية ترحيلات تابعة للشرطة موجودة في الشارع اللي المظاهرة بتعدي منه كل مرة''.. هكذا قال ''عمار'' عن يوم وفاة شقيقه، مضيفًا أن عربة الترحيلات كان مقصود بها استفزاز المتظاهرين لافتعال مشكلة مع ضباط الشرطة الموجودين على مقربة منها، ومن ثم حدوث اشتباكات وهو ما لم يحدث، حتى بدأ الرصاص ينهال على السائرين في المسيرة كما أن الرصاصة أصابت ''بلال'' من مسافة قريبة، تبعًا لكلام لأصدقائه الذين حضروا الأحداث.
بعد محاولات يائسة من أصدقاء ''بلال'' لإدخاله إحدى المستشفيات على أمل إنقاذ حياته وبعد رفض أكثر من ثلاث مستشفيات استقباله في مدينة نصر، لم يجدوا سوى منزله ملجئًا ليأوي جسده، خاصة مع دخول وقت الحظر؛ ليرقد ''بلال'' على سريره ليلتين دون أمل أن يفيق من السبات هذه المرة.
''أنا راضية عن ابني ومش مسامحة القاتل''.. قالتها والدة ''بلال'' في جنازة قرة عينها، لم يبدو عليها الاستسلام بل كانت تأخذ بيد من ضعفت قواه أمام موت ''بلال''، على حد تعبير ''عمار''.
أهداف ''بلال'' في حياته تنوعت بين التفوق الدراسي ورغبته في أن يرضى الله عنه، لكن الهدف الأكبر كان الموت شهيدًا، يريد بذلك أن يلحق بأصدقائه الثلاثة الذين قُتلوا في فض اعتصام ''رابعة''، ولذا كان هتاف ''وحياة دمك يا شهيد ثورة تاني من جديد'' محور حياته القصيرة.