كتبت - إشراق أحمد:
جسد نحيل؛ ملامح سمراء نُقش عليها خمسينيته، إلا أن صاحبته تمسكت ببقائه بين الدماء، وعلى أقرب مسافة ممكنة من ''السقط''، حافية القدمين جلست ''عفاف'' على عربة حديدية أكل الصدأ أجزاء كبيرة منها، وغطى سقفها ''الكرتون''؛ بعيدًا عن ملامسة الأرض لأقدامها وقبل زحام محال اللحم و''شوادر'' الماشية فضلت المكوث فوق العربة، اتشحت بالسواد إلا جزء من بنطال أظهر عنه جلبابها ووضع جلستها.
تدور حياة ''عفاف'' حول ''المدبح''؛ فيه تربت وخرجت لكسب الرزق منذ سن الخامسة عشر، وتزوجت وربت أبنائها الذين بدا أنها على غضب منهم ''عندي تلات شباب فيهم واحد ربنا يرحمني منه بقى''.
''تاكل وتقول الله يبارك لك يا عفاف''.. هكذا تتودد السيدة الخمسينية إلى الزبائن بينما تغرق قدميها في بقايا الدماء التي تظهر مع تفريغ الماء من أمعاء الماشية ''الممبار'' الموضوع أمامها بطبق بلاستكي، أو سكبه على ما تدلى بجوانب العربة من ''السقط'' وهو ما في ''الخراف'' أو ''العجول'' خلاف اللحم من أمعاء وكبد وطحال ولحم الرأس وغيرها.
الصبر هو عنوانها مع الزبائن؛ عمرها الذي قضته بالمدبح علمها ذلك، فتلك السيدة طلبت منها وزن بعض ''الممبار'' بعد تفريغه من الماء الموضوع فيه، وبعد استجابة ''عفاف'' وبقاء السيدة تنتقي ما تشاء تركتها فجأة دون نقاش، لم تتحدث عفاف بل نظرت إليها قائلة ''لو واحدة تانية في المدبح كانت اتخانقت معاها لكن أنا سبتها تمشي''.
لا تعبأ ''عفاف'' لشيء سوى '' أكل العيش'' الذي يزيد بعض الشيء في ''موسم'' العيد، لكن لا يفارق ذاكرتها الشخص الذي تسبب في نقلها وزوجها من مكانهم الأول بـ''المدبح'' قرب مستشفى السرطان قبل بنائها؛ وإن لم تتذكر اسمه بعد ثوان من الصمت قبل أن تستعين بزوجها لتذكيرها ''اسمه إيه يا صابر اللي شتمته ودعيت عليه ده'' فأجابها ''فتحي سرور''.
سنوات مرت و''عفاف'' على ''فرشتها'' هذه كما تسميها لكن ذلك لم يكن الحال قبل نقلها وزوجها من المكان الأول لهم ''زمان كان عندنا محلات وعربيات من ساعة ما مشونا وإحنا بشتغل في الكرشة والممبار ولحمة الرأس''.
حلقت بعينيها متذكرة الأيام الخوالي ''جوزي ده كان لامم المدبح كله''، عندما كانت تبيع مرتدية أزهى حلتها ''كنت أقف أبيع وأنا لابسة الكعب''، وأمدت يدها التي كانت تكسوها الحلي ''دراعي ده كان الدهب ماليه بس الزمن بقى''.
لم يعد الحال كما كان بعد الخسارة المتكررة التي تعرضت لها ''عفاف'' وزوجها، لكنها لم تتوقف رغم سوء الأحوال ''العيد ده واللي فات واللي قابله الحال واقف''؛ فأصبحت تلك العربة الرفيق البديل، وتلك الأيام ما هي إلا صور تسترجعها بين الحين والآخر، لا تُغفل عنها ما تعرضت له.
''أنا مت أربع مرات بس ربنا نجاني''.. ليست دعابة ألقتها ''عفاف'' بل تعبيرها عن الحوادث التي تعرضت لها ومشيئة القدر في بقائها على قيد الحياة، متذكرة تلك المرة التي أصيبت بكسور ألزمتها المستشفى قرابة ثلاثة أشهر دون وعي فحمدت ربها أن ''ربنا نجدني، راضية بحكمه''.
''ربنا يخرجني من الدنيا ومحدش يعملي حاجة، نفسي أموت وتراب السكك على رجلي''.. بدموع غلبت عينيها قالتها ''عفاف'' دون توقف عن وزن ما طلبته أحد الزبائن من ''الممبار''؛ فالستر وزيارة بيت الله الحرام ''نفسي أحج'' هو كل ما تتمناه سيدة ''المدبح'' الخمسينية.
لمتابعة أهم وأحدث الأخبار اشترك الآن في خدمة مصراوي للرسائل القصيرة واغتنم الفرصة واكسب 10000 جنيه أسبوعيا، للاشتراكاضغط هنا