كتبت - دعاء الفولي وإشراق أحمد:
لا تتعدى أعمارهم نظرة الكبار لهم سوى كونهم ''أطفال''؛ يحملون حقائبهم كما يحملون أحلامهم ومواقفهم الحالمة، والغاضبة، والمتطبعة بمحيط حياتهم.
مشهدان يمكن أن ترصدهما عيناك في منطقة سكنك أو عملك أو إذا مررت جوار مدرسة قرر طلاب منها التعبير عن رأيهم بالتجمع والهتاف في مسيرة تنادي بما يؤمنون به، لا يشغلهم ما سوف يُقال أو يحدث، كل ما يعرفونه ضرورة الخروج والرفض، وما يقابلهم من قرنائهم بالعمر؛ المختلفين معهم في الرأي، والطريق، لكن يبقى الحماس ''سيد الموقف'' لما يرفضه كل منهم.
المشهد الأول
مجموعة فتيات؛ لا يتعدن العشر سنوات، يرتدن الزي المدرسي، على ظهورهن حقائبهن، وعلى وجوههن يبدو الترقب والغضب؛ مجموعة صغيرة من الشباب خلفهن وأمامهن، أعدادهم لا تتجاوز عشرة أولاد، أعمارهم متفاوتة لكن أكبرهم سنًا بدا أنه لا يتعدى السابعة عشر من العمر.
داخل الأزقة التي تضيق وتتسع بمنطقة كوبري القبة، قرروا التجمع والسير بعد انتهاء اليوم الدراسي، يهتفن ويردد معهن الفتيان، وأحيانًا يقود أحدهم الهتاف وترددن خلفه ''الانقلاب.. هو الإرهاب'' وغيرها من الهتافات المنددة بالأوضاع الحالية.
تطل الوجوه على مجموعة الطلاب من الفتيات والفتيان، يخرج الناس من بيوتهم ومحلاتهم ناظرين، بعضهم بدا عليه نظره تعجب وقد صُدموا لجرأتهن، وآخرون كان ردهم اعتراضًا عما يفعل، ولم يمنع ذلك البعض من مبادلتهم أداء إشارة ''رابعة'' مؤازرة لهن، كسائق السيارة الذي ابتسم لهم وبادلهم الإشارة أثناء ركنه لسيارته.
'' أنا أول مرة أنزل مظاهرات.. عرفت من صحابي في الفصل''.. قالتها الفتاة التي تسير في آخر المسيرة الصغيرة بخطوات مترددة، لا تهتف، بل تحرك شفتاها فقط بما يقولون، تخاف أن تذكر اسمها لأي شخص، كحال أغلب المشاركين خوفًا من التعنت معهم بالمدرسة، على حد قولهم.
وبين التقدم والتأخر تسير أحد أولياء الأمور الوحيدة بين الطلاب التي قررت المشاركة مع ابنتها، يقتصر دورها على التواجد جوار المسيرة، وتصويرها بالفيديو، ومنع الفتيات من الرد على الشتائم التي تُقال من بعض المواطنين؛ فلا يكون منهن إلا أن يهتفن ''سلمية.. سلمية''.
''أم خلود'' ولية الأمر المشاركة بالمظاهرة ''ضد الانقلاب''، والتي لم تكن الأولى؛ حيث قالت ''إحنا بننزل كل يوم.. بس المرة دي العدد قليل عشان المدرسين بيهددوا البنات إنهم مينزلوش، وإلا مش هيدخلوهم امتحانات''.
''تقى'' إحدى الطالبات اللاتي كانت في المسيرة قالت ''مديرة مدرستنا قالت اللي هتنزل مسيرة أو أشوفها بتتكلم في السياسية هصورها وأودي الصورة لأمن الدولة مع إننا مدرسة أزهرية''.
استمر الهتاف ''الداخلية.. بلطجية.. ضحكوا عليكوا وقالوا إرهاب''؛ يتبادل قيادته فتاة مُتحمسة تلو الأخرى؛ تمر المسيرة بجوار المنازل والمحال فيبتسم رجل مسن قائلًا ''والله برافو عليكو''.
لم يسلم الأمر من بعض المناوشات الكلامية بين الفتيان بالمظاهرة وآخرين بالطريق ما إن مرت أمامهم حتى أبدوا اعتراضهم عن طريق وابلًا من السباب.
سُباب يأتي من خلف سور مدرسة ابتدائية بالطريق؛ فإذا بتلاميذ بالفصول يصيحوا اعتراضًا على مسيرة الطلاب؛ فحديث الكبار بالطريق لم يكن سوى تعبيرات بالوجه وقليل من كلمات التعليق؛ فسائق ذلك ''المتوسيكل'' يمر جوارهم قائلًاً: ''يا فشَلّة.. يا فشَلّة''، وسيدة ''إيه اللي بتعملوه ده''، وآخر يطلق السباب على الرئيس السابق ''مرسي''.
المشهد الثاني
''أنا بقى سيسي''.. قالها أحد الأطفال مبتسمًا أثناء مرور الطلاب بالهتاف، وكان الأمر بدأ يزداد حدة في ردود الأفعال شيئًا ما، سواء ممن في المظاهرة الذين حاولوا التزام الصمت عن الرد، والمارة وأهالي الشوارع التي يمر بها الطلاب.
''محمد'' اعترض على المسيرة؛ فبدأ في الهتاف ضد مرور الطلاب غاضبًا مما يقولنه ''يلا من هنا.. سيسي ..سيسي''، ويشاركه ''علي'' وآخرين وجهوا غضبهم بمجرد توجيه الكاميرا إليهم رافضين التصوير.
وعلى مشارف أحد المناطق الشعبية بكوبري القبة انتهت المسيرة وتفرقت، خوفًا من الدخول إلى ''العزبة''، على حد قولهم، وعادت الفتيات إلى بيوتهن التي ليست ببعيدة بعد تحذيرات من ''أم خلود'': ''ماتمشوش لوحدكوا''.
وأثناء التفرق صعد عدد من الأطفال فوق عربة مُحطمة بالقرب من مدخل ''العزبة'' التي توقفت قبلها المسيرة، مشيرين بعلامات النصر في اتجاه مغادرة طلاب المسيرة بينما وقف ''محمد'' بالجوار وهتفوا ''الله عليك يا سيسي.. مرسي مش رئيسي''.
استمر غضب ''محمد'' الصبي الأسمر ابن الصف الثالث الإعدادي لمحاولة تصوير أصدقائه ''ما تصورناش''، لكن بعد دقائق من الحديث واستمرار حديثه هو وأصدقائه أنهم لا يقبلون الهتاف ضد ''السيسي''، على حد قولهم، وبرغبة أحدهم في التصوير، تم كسر الجليد وقبلوا الحديث والإفصاح عن أسمائهم وكذلك التصوير ''السيسي هو اللي هي هيعدل البلد وهيخليها أحسن، السيسي هو الرئيس''.. قالها ''محمد''، ووافقه عدد من الأطفال الذين تجمعوا بمكان انتهاء المسيرة.
''المشهد له جوانبه الإيجابية والسلبية، وإن كان في اللحظة الراهنة فيما يتعلق بالدولة تكون سلبياته أكثر''.. حسبما قال ''إيهاب عيد''، أستاذ الطب السلوكي بجامعة عين شمس، موضحًا أن الإيجابيات تتمثل في أن الأطفال تحتاج لشيء غير نمطي ونشاط يقومون به؛ فلو تم إعطائهم فكرة سيثبتون أنفسهم من خلالها ''بصرف النظر إذا كان التوجه صح أو خطأ والاضطراب السلوكي لبعض الأطفال لكن الأغلبية الصحيحة نفسيًا يطلع منها حاجة عاطفيًا وجسديًا على عكس ما كنا نتصور أنهم بعيد عن الإرادة والانتماء''.
أما الجانب السلبي فقال ''عيد'' إن خروج الأطفال في مظاهرات يعرضهم لخطر ليس فقط جسديًا من التعرض لهم لكن لما قد يرتكبوه من مخالفة للقانون من تعطيل للمرور والتسبب في إزعاج السكان معتبرًا أن ''الأطفال عبارة عن أقراص مدمجة يمكن أن تضع عليها أي شيء وتوجيهم في أي اتجاه أو ما يقال عنه غسيل مخ، نظرًا لتعطشهم للمعرفة وامتصاص تلك الإسفنجة لأي شيء سواء من الكبار أو الإعلام''.
وأضاف أستاذ الطب السلوكي أن طاقة الغضب التي تظهر على وجوه الأطفال في المظاهرات لا تتناسب مع أعمارهم، وأنه الأفضل استغلالها في مجال أكثر نفعًا وليس صراع سياسي ''المسألة أصبحت أشبه بأحد أفلام الرسوم المتحركة التي تحارب فيه مجموعة فراخ مجموعة أخرى''.
وتابع أن المشهد يشبه عالم الكبار ظاهريًا؛ لكن الاختلاف أنهم في مرحلة التكوين ''الكبار بقوا عاملين زي البلاي ستيشن؛ كل واحد ماسك دراع دول بيحركوا دول ودول بيحركوا دول''، حسب قوله.
وأشار إلى أن التربية السياسية مطلوبة، لكن ليس لدرجة إقحام الأطفال ممارستها، مضيفًا أن المسألة تبدأ بالأسئلة التي توجه للأطفال في الصغر مثل ''أنت بتحب تلعب مع مين أكتر، مين أكتر حد عايز تبقى معاه؛ بابا ولا ماما''، فذلك نواة ترسيخ التعصب لطرف ضد الآخر، في حين أن التربية السياسية تقوم على دفع الطفل لتحليل المواقف وإبداء رأيه فيها بحرية لا تخل من الاحترام مع التوجيه ضد الأفكار التخريبية والعنف.
وأكد ''عيد'' أن استمرار انقسام المشهد بين الأطفال وما يشوبه من عنف سلوكي ''مخيف جدًا هنحتاج من 10-20 سنة؛ عشان نتخلص من هذا التعصب، من فترة كنا بنقول الاعتماد على الأجيال الصغيرة دلوقتي بيتلعب بمخهم مش عايزين نزرع التعصب والعمى في التفكير''، وأن الإعلام مشارك في المشهد بجانب كبير مطالبًا أن يكون هناك ''عدالة فيما يراه الأطفال''، مشيرًا إلى أن العنف والتطرف في السلوك والرأي يواجه بما يعرف ''العلاج السلوكي المعرفي وهو تغيير السلوك عن طريق تغيير المعلومات''.
لمتابعة أهم وأحدث الأخبار اشترك الآن في خدمة مصراوي للرسائل القصيرة واغتنم الفرصة واكسب 10000 جنيه أسبوعيا، للاشتراك ... اضغط هنا