كتبت - دعاء الفولي وإشراق أحمد:
وقفت ''جهاد'' ذات الثالثة عشرة عامًا مستندة إلى جدار بناء صغير منخفض عن المنزل الواقع خلفه؛ انفتح بابه الحديدي بني اللون فكشف عن علب حلوى وعصائر فوق ''أرفف'' أخذت مكانها فوق مساحة لا تتعدى خمس ''بلاطات'' وضعت بالأرض، بينما تدلى على ذلك الباب أكياس صغيرة من غسول الرأس ''شامبو''.
أمسكت ''جهاد'' بقفل جانب الحائط ثم اعتدلت قائلة ''باجي أساعدها لو محتاجة حاجة'' ؛ ''جهاد'' وغيرها من أبناء ''الساحة الشعبية'' بمنطقة ''الفسطاط'' في مصر القديمة، اعتادوا التردد على ''الخالة شادية''، كما يلقبها أهالي المنطقة، لشراء الحلوى أوالبقاء معها ساعات النهار أمام ''الكشك'' الصغير الذي تمتلكه.
وإن كانت ''جهاد'' ابنة أحد أقارب ''شادية''؛ فبالنسبة لها السيدة التي لم تكمل عامها الخمسين بعد بمثابة ''الخالة''، غير أن ''محمد'' و'' رضا'' الصغيران اللذان يترددان على ''شادية'' ولا تربطهم صلة قرابة يعتبرونها أيضًا كذلك.
جلست ''شادية'' على كرسي أمام ''الكشك'' الصغير الذي لا يدر لها إلا القليل من الدخل؛ ابتسامة تفيض من روحها لتملأ ملامح الوجه ترحابًا بمن تحدثه رغم اتشاحها بالسواد، هي زادها بالمنطقة التي ولدت وتربت بها؛ لم تعرف لها منطقة غيرها ولا تريد ذلك، فالمنطقة ''حلوة ومفيهاش مشاكل''، على حد قولها.
''السنة دي الحالة صعبة، أنا قبل كده كنت ببيع إنما السنة دي لأ''.. قالت ''شادية'' عن حال رزقها، موضحة أن '' لو روحت بـ2 جنيه آخر اليوم يبقى كويس أوي''، كما أنها لم تعد تفتح المحل في الليل كثيرًا كما كانت تفعل من قبل.
الأطفال الذين جلسوا حول ''شادية'' يستظلون بقطعة الخشب الموضوعة كسقف ''للكشك''، وكأنهم أبنائها هم مَن يهون عليها برمضان وجميع شهور السنة؛ فهي لم تتزوج إلا أنها تعتبر كل أطفال المنطقة أبنائها'' أنا بحب الأطفال وهم بيحبوني وبييجوا يقعدوا معايا وكانوا ساعات يفطروا معايا في رمضان أما كنت بفتح وقت الفطار''.
ضيق الحال وقلة الأموال لم تمنع ''شادية'' من الدعاء للشباب المصريين طوال الوقت ''أنا صعبان عليا الشباب اللي بتموت كل يوم دي، والعواجيز يفضلوا موجودين، حرام والله''، فاختلاف مواقفها السياسية مع بعض الذين ماتوا في الأيام الماضية لم يغير حقيقة أن موت الشباب يحزنها أيا ما كانت اتجاهاتهم.
مرض ساقيها هو ما منع ''شادية'' عن النزول في المظاهرات ووقت ثورة يناير رغم رغبتها في ذلك؛ فهي وإن لم تذهب لتهتف مع المتظاهرين إلا أنها ''كنت بدعيلهم''، مؤكدة أن منطقتها لم تشهد موت أي أحد من الشباب رغم ما تسمعه عن موت آخرين في مناطق مجاورة لهم.
''شادية'' تتابع ما يحدث بالبلد؛ ذهبت للانتخابات عندما جاءت الدعوة لذلك، ليست لها انحياز إلا لمنطقتها وأحوال أهلها ''الغلابة''، حسبما وصفت؛ فكل ما تراه عما حدث من عزل ''محمد مرسي'' عن السلطة ''كان حقه لم البلطجية وعمل حكومة قوية لها سلطتها تساعد الناس بدل ما الناس قويت عليه''، ومع ذلك فهي على يقين أن ''مصر محروسة ربنا كارمها بدين الأنبياء والشيوخ ''.
''ربنا كبير''.. تلك الكلمة هي تميمة الصبر للمرأة التي لم تكمل عامها الخمسين بعد؛ ففقر الناس في المنطقة وفقرها معهم لم يبعد كلمة ''الحمد لله'' عن لسانها، ولم يمنعها من التفاؤل رغم كل شيء ''ربنا بيراضي الناس قبل ما تنام، محدش بيبات من غير عشاء، الحمد لله لأن ربنا مبينساش حد''.
''أهل الخير كتير''.. قالت ''شادية'' عن المساعدات التي تأتي للمنطقة سواء من قبل الجمعيات الأهلية المتعددة أو من قبل بعض الأشخاص، على الرغم من تأكيدها أن الحال ليس كالأعوام السابقة، كما أنهم ''وقت الفطار في رمضان بييجوا يوزعوا علينا وجبات وبيجيبولنا أكل وبيحاولوا يخدموا''.
''القمامة'' داء المنطقة التي تقطن فيها ''شادية''؛ فهي تغطي مداخل المنطقة وتتصاعد الأدخنة السوداء من حين لآخر نتيجة حرقها، لكنها مع ذلك تحدثك وتشير إلى الشجرة التي زرعتها أمام بيتها وجوار الكشك ''أنا زارعة قدام الأوضة اللي ساكنة فيها شجرة وزرع عشان ميرموش الزبالة قدام البيت''.
وبابتسامة ترقرق معها الدمع في عينيها قالت ''نفسي في عمرة''؛ هذا كل ما تتمناه ''شادية'' المحيط بها أبنائها من أطفال المنطقة و'' الكشك'' الصغير.