كتبت - نوريهان سيف الدين:
على خلاف السنوات السابقة، لم يجد المصريون تلك البهجة التي تعم على أغلب المساجد والزوايا خلال شهر رمضان الكريم، هذا الزحام المحبب للقلوب أثناء آداء صلوات العشاء والتراويح، والذي كان يتسبب أحيانًا في تعطيل حركة المرور في بعض الشوارع، لا سيما أنه يزداد مع دخول الليالي العشر الأخيرة و إقامة ''التهجد'' ودخول البعض في ''الاعتكاف''.
إلا أنه في رمضان هذا العام، لم تجد الفرحة الغامرة طريقها لقلوب المصريين كما ينبغي، ورغم إقامة الصلوات في جميع مساجد مصر، إلا أنها لم تشهد الزحام الكبير خصوصًا مع تزامن الشهر و''مظاهرات واعتصامات مؤيدي الرئيس السابق مرسي''، وحالة الترقب التي شهدها الشعب المصري، خوفًا من لحظة فض تلك الاعتصامات.
إلا أن المساجد ظلت ببهائها حتى آخر أيام عيد الفطر المبارك، وراعت الأطراف حرمة الأيام المباركة لدى المصريين جميعهم، ثم ما لبثت أن جاءت لحظة الحسم والمواجهة لفض الاعتصامات، لتتحول بعض المساجد إلى ''ساحات اعتصام'' و ''ملاجئ اختباء'' بين ''الإخوان ومؤيدي مرسي ومناهضي ما وصفه البعض بـ''الانقلاب''، وبين ''قوات الأمن والأهالي'' الرافضين لاعتصامات ''النهضة ورابعة''.
وبين مؤيد ومعارض، ومن يرى ''إرهاب'' تمت ممارسته على من داخل المساجد واستباحة الدماء في ملاجئ مقدسة، وبين من يرى ''إرهاب الإخوان'' و لجوئهم للمساجد لتعطيل ملاحقة الأمن لهم، بين هذا وذاك، وقفت عدة مساجد مصرية شاهدة على ما يقرب الأسبوع من أحداث دامية سقط فيها مئات المصريين من كلا الطرفين، وتحولت تلك المساجد إلى ''مشرحة جثث'' أو ''أماكن حصار'' محاطة بقوات الأمن من جميع الجهات.
رابعة العدوية.. من ''دار مناسبات'' للكبار إلى ''مستشفى ميداني'' للمعتصمين
لم يدر بخلد سكان حي مدينة نصر أن المسجد المبني مطلع التسعينات، والملحق به دارًا للمناسبات ومستشفى، أنه سيتحول إلى محط لأنظار العالم لمراقبة ''ماذا بعد 30 يونيو''، وقرار ''عزل مرسي'' عن الحكم بمباركة جمع غفير من شعب مصر وقيادات الجيش والأزهر والكنيسة والمعارضة.
''مسجد رابعة العدوية'' على مدار أكثر من 50 يومًا شهد ما يقارب 200 ألف شخص على أقل التقديرات بين معتصمين وزائرين للاعتصام، فضلاً عن وكالات أنباء عالمية، ومنصة كبيرة هادرة تهتف بـ''سقوط حكم العسكر وعودة مرسي''.
الساعة السادسة صباح 14 أغسطس.. أوامر لقوات الأمن بفض اعتصامي ''النهضة ورابعة'' بعد تحذيرات متتالية بانصراف المعتصمين بشكل سلمي، خصوصًا مع شكوى قطاع واسع من سكان المنطقة من تأثر حياتهم اليومية وأعمال التفتيش والضجيج الغير مألوف لهم منذ مجيء الاعتصام.
''قنابل غاز، طلقات خرطوش، جرافات لإزالة الخيام، طائرات هليكوبتر للتصوير''.. هذا ما أظهرته قنوات التليفزيون المصري وبعض الفضائيات في ''بث مباشر من رابعة العدوية'' لفض الاعتصام، وإلا أنه ومع نذير سقوط الضحايا، تحولت الأنظار إلى ''المستشفى الميداني'' الملحق بالمسجد، وتحذير قوات الأمن بضرورة إخلائه وتسليم الجثث للإسعاف، إلا أن المحاولات باءت بالفشل، وانتهى الأمر بـ ''حرق المسجد والمستشفى الميداني''.
دمار عام شمل مساحة كبيرة من محيط المسجد بالداخل والخارج، أتى أيضًا على محتويات المستشفى الميداني، وهو ما دفع القوات المسلحة لإعلانها ''ترميم و إصلاح مسجد رابعة العدوية'' مع عدة كنائس احترقت أثناء مظاهرات رفض عملية الفض.
مسجد الإيمان.. رائحة الموت في كل مكان
على بعد عشرات الأمتار من ''ميدان رابعة العدوية'' وبشارع مكرم عبيد، تجمعت الجثث الساقطة من المواجهات بين الأمن والأهالي والمعتصمين و المتضامنين معهم في ''فض اعتصام رابعة''، واتخذت من ''مسجد الإيمان'' محطة لهم، إلا أن المسجد الممتلئ عن آخره بعشرات الجثث لم يصمد أمام الحصار من الخارج والزحام من الداخل، وأطلق أطباء المستشفى الميداني استغاثات يطلبون فيها ''مراوح'' للحفاظ على الجثث بعد أن بدأت تتعفن مع حرارة الجو.
سيارات الإسعاف بالخارج، إلا أنها لم تستطع حمل المزيد من الجثث، ورفض أهالي القتلى تسليم ذويهم إلا بعد كتابة تقارير وفاة تثبت تعرضهم لإطلاق النار، وبالرغم من امتلاء المسجد عن آخره بجثث المتوفين، إلا أنه وللمرة الأولى لم يستطع آداء صلاة الجنازة عليهم، وتحول من ساحة أداء جماعي للصلوات إلى ''مكان للنحيب والدموع'' وأيضًا ''للتوتر ورائحة الغاز''.
''الفتح''.. منطلق مسيرات ميادين الثورة
على الرغم من إعلان حالة الطوارئ وفرض حظر التجوال منذ السابعة ليلاً، إلا أن عدد كبير استجاب لدعوة ''جماعة الإخوان'' بتنظيم مسيرات تنطلق عقب صلاة الجمعة من مساجد مصر، رفضًا لعملية ''فض اعتصامي النهضة ورابعة''، واستنكارًا لسقوط هذا الكم من الضحايا.
وعلى الرغم من خروج المظاهرات من عدد كبير من المساجد في القاهرة والمحافظات، ووقوع بعض المناوشات بين المتظاهرين والأمن والأهالي، إلا أن الحدث الأكبر جاء من ''مسجد الفتح برمسيس''.
''مسجد الفتح'' ظل طوال فترة ثورة 25 يناير منطلق المسيرات المتوجهة للتحرير أو الاتحادية، خاصة عندما تلتحم معه مسيرات الجامع الشقيق ''النور بالعباسية''، إلا أن قرار بعض المتظاهرين بالاعتصام بالمسجد، دفع قوات الأمن لتطبيق حالة الطوارئ لفض اعتصامهم، فضلا عن خروج بعض الأهالي الرافضين للإخوان للوقوف بجانب الشرطة، وهو ما أدى لسقوط عدد جديد من الضحايا.
صلاة الفجر في خوف، مراسلي القنوات لم يستطيعوا الدخول أو الخروج من وإلى الجامع، لحظات الفض ''على الهواء مباشرة''، وصورة تبث ''طلقات رصاص'' قادمة من أعلى مئذنة الجامع باتجاه قوات الأمن المحيطة بكثافة بالجامع، أنكر المعتصمون بالداخل أنها صدرت منهم، في حين أكدت القوات أنه ''الإخوان مسلحون''.
ومع أول ساعات النهار ونهاية فترة الحظر، استطاع الأمن الدخول للجامع وإخراج من بداخله، واعتقال عدد لا بأس به من المنتمين لجماعة الإخوان و بعض الشباب.
القائد ابراهيم .. من ''حصار المحلاوي'' و حتى ''منع الصلوات''
في الذكرى المئوية لوفاة المحارب والعسكري المصري ''ابراهيم باشا'' نجل ''محمد علي''، بُنيَ هذا المسجد بتصميم ''مهندس إيطالي''.
''القائد إبراهيم''.. المسجد الأشهر في الإسكندرية بعد ''المرسي أبو العباس''، إلا أنه يكتسب شهرته الواسعة من الخطباء القادمين للإمامة وإعطاء الدروس، لعل أبرزهم ''الشيخ المحلاوي'' الذي منعه ''نظام مبارك'' من إلقاء الخطب في منتصف التسعينات.
''المحلاوي'' عاد من جديد للمسجد بعد الثورة، إلا أن تمركز الدعوة السلفية بالمسجد وخروج المظاهرات منه دفعت بعض البلطجية لمحاصرته أواخر ديسمبر الماضي، ولأول مرة تمنع الصلوات بداخله بعد حصار المسجد وإلقاء الطوب من المتواجدين بالخارج رفضًا لـ''الدستور'' وهيمنة ''الإسلام السياسي'' على مجريات الأمور في مصر، وهو ما قوبل بتجاهل كبير من ''حكومة قنديل''، وقادة الرأي العام و الإعلام منعًا لإشعال الموقف قبل التصويت على استفتاء الدستور.
''منع الاعتكاف'' أثناء رمضان كان بمثابة إشارة التحذير لمرتادي ''القائد ابراهيم'' لعدم تماديهم في ''دعم شرعية مرسي''، وأن الأمن لن يتوانى في فرض سيطرته، وتطبيق خارطة الطريق التي أعلنها ''الفريق السيسي''، وهو ما حدث بالفعل منذ يومين، بعد موجات العنف التي شهدتها مدينة الإسكندرية، و تعرض ''المكتبة'' لمحاولة اقتحام، ورغبة الأمن في إحكام الأمور، وللمرة الثانية يرشق المسجد والمعتصمين بالحجارة من بعض المجهولين، في حين أطلقت قوات الأمن تحذيراتها للمعتصمين بخروجهم حتى لا يتعرضوا لمسائلة قانونية ويثيروا اشتعال الفتنة بشكل أكبر.