تقرير- محمد مهدي:
طار النوم من عينيه المجهدتين، بينما غرق زملائه المجندين، في سبات عميق، نظر إليهم مشفقا على حالتهم، متمتًما: ''غلابة.. واحشهم النوم''، ثم نظر إلى الطريق وابتسم: ''للحرية طعم لا يقدر قيمته سوى من كُتب عليهم العيش في عالم يتحرك بالأوامر''..
أطل برأسه خارج الحافلة التي يستقلها، واحتضن لسعة الهواء البارد المنعش، ثم سرعان ما جلس في مقعده، وأخذ ''يدعبس'' في جيوبه حتى حصل على شىء ما، صورة لفتاة ريفية صغيرة، ينضح النقاء في وجنتيها، ارتسمت على ملامحه فرحة بلهاء، بينا ظل يتأمل صورتها وهو يدندن في حالة من النشوة: ''حاقبله بكرة وبعد بكرة''.
في الحافلة المجاورة ، كاد التفكير أن يتفك بعقل مجند آخر، بعد أن أنغمس في متابعة تحليل أحد الخبراء الأمنين، من خلال المذياع عن الأوضاع الصعبة في سيناء، وعدد القتلى من رجال الشرطة والجيش، ممن يسقطون يوميًا، من مواجهة الدولة مع الإرهاب، وأنهى الخبير حديثه بأن شهداء الشرطة والجيش فخر لكل المصريين..
ارتجف قلبه، وشعر بالخوف عندما علم أن عدد كبير من المجندين زملائه قُتلوا في الأونة الأخيرة على يد مسلحين، تسأل لماذا يُقتلون وكل ما يفعلونه هو تنفيذ تعليمات يقال إنها لمصلحة البلاد؟!.. وما سر سعادة الخبير وهو يذكر كلمة ''فخر''، وكأن أرواحهم وقود لمزيدا من ''فخر'' مصر بأبناءها!.. سؤال تلقى إجابته في أصوات خرجت بصوت عال من حناجر زملائه النائمين: ''بقولك يا دُفعة أنا هاشغل حاجة نسمعها بدل صوتك الكروان دا''، قالها سائق الحافلة الأولى بسخرية للمجند المنطلق في الغناء، وأشعل المذياع..
تنامى إلى مسامعه غنوة لم يتبينها، هرب منها إلى شروده، تذكر البداية، شعوره لأول مرة أن العالم كبير جدًا، وأنه نقطة في بحر، عندما وقف في طابور ليس له أخر، ينتظر قدره، الذي اختار له في آخر الأمر أن يُصبح مجندا، 3 سنوات مضت، تعلم فيها ما لم يخطر على عقله قط، اعتدلت مشيته، انتصبت قامته، اسمرت ملامحه، نشأت علاقة وطيدة بينه وبين الصباح الباكر، واحترف العمل الشاق، وأصبحت جملته المفضلة: ''تمام يا فندم''، وعرف أخيرا قيمة طعام والدته.
أيام مرت بكل ما فيها، بقى له هو وزملائه الـ 27 المتواجدين معه في الحافلتين، بضعة إجراءات وينتهي كل شىء! لم يكن يعلم أن الجُملة ستُنفذ بحذافيرها.. انتشله من شروده صوت مجند زميل، يصرخ في السائق بصوت ريفي: ''ايه اللي مشغله دا يا حاج.. شوفلنا حاجة عِدلة''، ليختفى صوت المذياع قليلا، ويعود بصوت الشيخ إمام يشدو: ''واه يا عبدالودود..يا رابض على الحدود''، تبادلا الابتسامات، وشرعا في الغناء مع ''إمام'' إلى أن الأمور أخذت منحنى لا يليق بالموقف، فوجئوا بوابل من الرصاص ينطلق صوب الحافلتين، صرير إطارات، زجاج يُهشم، أهات مكتومة، دماء تتناثر متدفقة من أجساد بريئة، ثم صمت مطبق.
كل شىء حدث سريعا، لحظات ولفظ 25 مجندا أنفاسهم الأخيرة، دون أن يدركوا أي سبب لهذه الفعلة، لم يتمكنوا حتى من رؤية من قتلهم حتى يلتقي بنظراتهم إليه ويدرك فداحة جريمته، فقط أنزوى أخر 3 على قيد الحياة، اثنين منهم مصابين برصاص في أماكن متفرقة من جسدهم.
الناجي الوحيد أصيب بصدمة عصبية، منعته من الرد على الشيخ ''إمام'' عندما دوى صوته في الأنحاء: ''كيفك يا واد صحيح.. عسى الله تكون مليح.. أمك هتدعى ليك وهتسلم عليك وتقول بعد السلام.. خليك ددع لابوك ليقولوا منين جابوك ويمسخوا الكلام.. واه يا عبد الودود عقولك وانت خابر كل القضيه عاد.. ولسه دم خيك مشرباش التراب.. حسك عينك تزحزح يدك عن الزنا خليكى يا عبده واصل لساعة الحساب''.