كتبت - نوريهان سيف الدين:
ربما كان أحد المساجد الكبيرة في الشارع، ولا يعرفه سوى سكان المنطقة وبعض المارة، يقصدوه لآداء الفروض والاستماع للخطب، إلا أنه بين عشية وضحاها تحول لقبلة للمعتصمين وقوات الأمن ووسائل الإعلام على حد سواء، وامتلأ بـ''الجثث'' المتساقطة جراء فض اعتصام ''رابعة العدوية''، وتحول من ''مسجد'' هادئ إلى ''مشرحة'' يقصدها الأهالي من كل حدب وصوب للتعرف على جثث أبنائهم.
''مسجد الإيمان'' الكائن بشارع مكرم عبيد بحي مدينة نصر، والذي تحول إليه المعتصمون أنصار الرئيس السابق ''محمد مرسي''، بعد إخراجهم بالقوة من مسجد ''رابعة العدوية'' وفض الاعتصام منذ، الأربعاء الماضي، واحتراق ''المستشفى الميداني'' الكبير الملاصق لمبنى المسجد ودار المناسبات.
''مسجد الإيمان'' رغم امتلائه بعشرات الجثث، إلا أنها على غير عادة الجثث القادمة للمسجد منذ إنشائه للصلاة عليها والإسراع بدفنها، وبدلاً من أن يكون ''إكرام الميت دفنه'' خاف الأهالي والمعتصمون من تسليم القتلى للإسعاف، بعد توارد أنباء أن تصاريح الدفن سيكتب فيها ''ماتوا منتحرين''، كما تردد هناك.
ليلة دامية قضاها أهالي مدينة نصر، وتحديدًا المنطقة المحيطة بميدان ''رابعة'' والشوارع الرئيسية القريبة ''عباس العقاد، مكرم عبيد، الطيران، يوسف عباس، مصطفى النحاس''؛ فبين أفراد أمن أنهكتهم مطاردات استمرت ليومين على التوالي، وبين أهالي اختنقوا من دخان قنابل الغاز، وبين معتصمين نساء وأطفال وشباب وشيوخ، روعهم وابل من طلقات الرصاص، ومطاردة الأمن لهم لإثنائهم عن قرار استمرار الاعتصام.
استغاثات متتالية من المتواجدين داخل المسجد سواء من أطباء المستشفى الميداني أو المعتصمين بتوفير أعداد من المراوح لتبريد الجثث، ولم تفلح كميات البخور ومعطرات الجو في منع رائحة القتلى من الانبعاث بعد مرور أكثر من ليلتين داخل المسجد دون دفن، وخوف الأهالي من اختفاء جثث ذويهم.
بكاء منهمر وصمت يخيم على المكان، لا يلبث أن يقطعه أصوات نحيب واحتساب، وقتها ستعرف أن أحدًا رأى جثة ابنه أو أخيه أو صديقه، أو ربما جاء ليبحث عنها فلم يجدها، ويبقى معلقًا مستمرًا في بحثه عن جثة ذويه.
سيدة كبيرة ألتقطتها عدسات إحدى القنوات الفضائية على أبواب المسجد، اختلطت دموعها بقول ''حسبي الله ونعم الوكيل يرضي مين الدم ده كله''، عُرف إنها تسكن بالقرب من المسجد وتعمل بأحد العمائر، وعلقت ''لو كان معاهم سلاح مكانش اندبحوا بس كانت هتبأه مجزرة أكبر.. استرها يارب''.
قائمة كتبها أطباء المستشفى الميداني تضم عشرات القتلى وعناوينهم في محاولة للمساعدة في التعرف عليهم واستلام ذويهم لهم، و رغم الأصوات أفراد الأمن الصادرة عبر مكبرات الأصوات المحيطة بالمكان لخروج المعتصمين، إلا أنهم رفضوا الخروج وترك الجثث، خاصة بعد تصريح قوات الأمن بأنهم سيدفنوها بمعرفتهم، وخوف أهالي الضحايا من عدم إثبات سبب الوفاة الحقيقي في تقارير الطب الشرعي ليتمكنوا من استخراج تصاريح الدفن.
مع اقتراب ساعة فرض حظر التجوال، ولا زالت رائحة الغاز تملأ المكان، وصلت ما لا يقل عن 15 سيارة إسعاف، لاستلام الجثث، وعلى الرغم من إحكام الأمن سيطرته في المكان، إلا أن ثمة مناوشات دارت بين المعتصمين والأمن ورجال الإسعاف، خاصة بعد تصريح فريق النيابة العامة أن ما تم العثور عليه حتى الآن هما الجثتان المتفحمتان بجوار مسجد رابعة العدوية فقط، وليست جثة واحدة، وتم معاينة ميدان رابعة العدوية ولم يجدوا به أي جثث أخرى.