كتبت - دعاء الفولي وإشراق أحمد:
داخل منطقة الفسطاط بمصر القديمة كانت ''الساحة الشعبية''؛ منطقة تبعد عدة شوارع عن مسجد ''عمرو بن العاص''، وكنيسة ''مارجرجس'' وتقع على مساحة مرتفعة عن سطح الأرض، يحيط بمدخلها سور أسفله يقع نفق ''الملك الصالح''، وبعض القمامة التي تحترق من حين لآخر؛ فتملأ المنطقة بالأدخنة الخانقة، وعلى الجهة الأخرى من النفق مجموعة أخرى من البيوت تتبع ''الساحة الشعبية''، ولا يفصلها عن نظيرتها الأولى سوى كوبري مشاة حديدي.
وشوش السكان في ''الساحة الشعبية'' لم تختلف ملامحها الطيبة التي أتعبها الفقر عن المناطق الشعبية الأخرى، وإن كان حال ''رمضان'' هذا العام لا يسر كثيرًا، لكن الأمل لم يفارق كلماتهم.
''بهلول''.. نجار ''الساحة الشعبية''
''بهلول''، أحد سكان المنطقة، وقف واضعًا قلم رصاص خلف أذنه منهمكًا في العمل بورشة صغيرة للنجارة؛ قال عن رمضان هذا العام ''السنة دي أفضل الحمد لله، رحيل مرسي هو اللي ريح الدنيا بالنسبة ليا أكتر، البلد كانت ماشية في طريق غير الطريق''، مؤكدًا أن ''بعد مظاهرات 30 يونيو الدنيا هديت شوية والأسعار بقت أفضل من السنة اللي فاتت، يعني على الأقل مبقتش تغلى''.
السياسة لم تبتعد كثيرًا عن كلماته ''إحنا عايزين البلد تبقى في إيد أمينة بغض النظر مين هيمسكها وحد يكون بيراعي ربنا في الناس''، الأحداث التي تمر بها البلد لم تمنع بعض الجمعيات الخيرية والأهلية من القدوم لتوزيع وجبات الإفطار على أهالي المنطقة، والذي يعتبره كثير من أهالي المنطقة الخير الذي يحمله الشهر الكريم لهم ''الجمعيات قايمة بالواجب هنا بشكل كبير''، تبعًا لكلام ''بهلول''.
''أشرف''.. مصاب ثورة مع ''إيقاف التنفيذ''
وعلى السور المرتفع المحيط بالمنطقة والوقت يشير إلى الظهيرة، جلس ''أشرف''، أحد سكان المنطقة، لم يكن على عجلة من أمره؛ فهو لا يعمل نظرًا لظروف صحية ألمت به، ومن وقتها يعتمد على ما يأتي به ''أهل الخير''.
''أنا أصبت في الثورة يوم 25 يناير، وقعت على ضهري عند الإذاعة والتليفزيون''.. هكذا تحدث ''أشرف'' عن إصابته، التي حدثت نتيجة سقوطه عند محاولته تجنب التدافع والزحام بصعود أحد أعمدة الكهرباء بجانب مبنى ''ماسبيرو'' وقت الاشتباك مع الشرطة، مما أدى لحدوث ''شرخ'' في فقرات الظهر، وتأثرت عضلات اليد والساق مما جعل رجوعه لعمله القديم شبه مستحيل.
''معاش'' هو كل ما يطلبه ''أشرف''؛ فهو بالكاد يستطيع أن ينفق على ولده ''محمد''، ورغم أنه من مصابي الثورة إلا أنه '' أنا مروحتش أخدت التعويض، لأني خفت يفتكروني بلطجي ولا حاجة والشرطة تقبض عليا، مع إني أعرف ناس أخدته والمعاش اللي بجري عليه كل ما أروح حتة يبعتوني حتة تانية، وآخر مرة قالوا لي روح هات شهادة من الجبل الأصفر في حلوان، وأنا معيش حق المواصلات في الأماكن البعيدة اللي بيبعتوني ليها''.
''رمضان'' هو شهر الكرم لكن حال المساعدات هذا العام ليس ككل عام، ولا تكون بالقدر الكافي بعد انتهاء الشهر ''الناس تعبانة، لو محدش لحق الشباب اللي قاعدين من غير شغل دول هيموتوا، المصري لولا إنه عنده صبر كان زمانه انفجر من زمان، بس ده ميمنعش إنه لو الناس اتسابت كده هتلاقي السرقة والقتل بقوا أكتر''.. هكذا علق ''أشرف'' على أحوال البلد.
''محمد''.. ''عين'' الساحة الشعبية
وبجانب أبيه جلس ''محمد'' هادئًا، لا تخرج الكلمات من فمه إلا عندما يلح عليه أحدهم ليتكلم؛ أعوامه الثلاثة عشر بدت وكأنها أقل لصغر جسده؛ عيناه التي ذهبت إحداهما نتيجة وجود مياه بيضاء عليها لم يتم تعويضه عنها؛ فالعلاج على نفقة الدولة لم يكف لإعادة عينه '' أتعمل له أكتر من عملية وفي عملية منهم بوظت عينيه التعبانة أكتر''، على حد قول أبيه.
''محمد'' آماله لا تقتصر على الشفاء، ما يتمناه أبسط من ذلك ''الأبلة مشتني من المدرسة وأنا في رابعة ابتدائي عشان عيني كانت بتوجعني، وكنت بقعد آخر الفصل ومبشوفش حاجة على السبورة، فكانت بتزعقلي وفي الآخر مشوني من المدرسة''.
العودة لمدرسته هو أكثر ما يتمنى ''محمد''، كما أن فقده لإحدى عينيه لم يمنعه من الحلم بأن يكبر ليكون طبيبًا يوم ما، أما حلمه الأخير ''عجلة ألعب بيها''، ''اللعب'' هو دائمًا الكلمة المعبرة عن حال الأطفال، حتى وإن كانت أحوالهم الصحية ضعيفة كـ''محمد''؛ فذلك لم يمنعه عن الاستمتاع بالجو الرمضاني ''بصحى العصر من النوم أروح لخالتي شادية أقعد معاها للفطار، وبعد الفطار بقابل صحابي، ونلعب كورة واستغماية لحد بليل''.
''مريم''.. ''بائعة حلوى'' المنطقة
وعلى الجانب الآخر من الكوبري جلست ''مريم'' داخل محل لبيع البقالة والحلوى؛ الأجواء الرمضانية التي تفضلها طالبة الصف الأول الإعدادي تبدأ في الليل وتحديدًا بعد الإفطار؛ فالنهار هادئ ''عيال المنطقة بيبقوا نامين، الزحمة بالليل بعد الفطار كل العيال بتلعب لكن الصبح بيبقى عادي''.
الملل صديق ''مريم''؛ حيث لا تجد ما تفعله سوى الجلوس بمحل والدها وتنتظر بعد الإفطار لزيادة التردد على الشراء من المحل؛ فهي تفضل الدراسة عن الإجازة التي توافق مجيئها مع شهر رمضان ''الدراسة حلوة أكتر من الإجازة، لأنها بتجمعني أنا وصحابي نذاكر، بنلاقي حاجة تشغلنا لكن الإجازة عادي''.
''رأفت''.. ''مفتش صحة'' داخل الساحة الشعبية
''إحنا منطقة شعبية والناس تعبانة''.. هكذا لخص ''رأفت'' أحوال المنطقة في رمضان، مشيرًا إلى أن الأوضاع في هذا الشهر لا تختلف كثيرًا عن باقي شهور السنة.
الأوضاع السياسية كانت المسيطرة على كلمات ''رأفت'' الذي يسكن بالمنطقة منذ 40 عامًا، بدءً من قرار نقل المنطقة إلى السادس من أكتوبر، والذي لم يكن موفقًا؛ حيث عادت الأهالي إلى سكنها مرة أخرى ''معجبهمش الأحوال هناك المنطقة بعيدة''، حسبما قال ''رأفت''.
ومرورًا بتأكيده أن أحوال المنطقة ''هي هي بالعكس الأوضاع بتسوء''، ورفضه أوضاع البلد الآن من عزل ''محمد مرسي'' عن السلطة ''مخدش فرصته أساسًا''، لكنه في الوقت ذاته يرى أنه لم يفعل شيئًا ''للأسف لو كان طبق حاجة من شرع ربنا كانت الناس وقفت جنبه''.
وأنهى ''رأفت''، مفتش الصحة، الذي يمتلك محل بيع بقالة وحلوى أطفال بعد العمل الرسمي حديثه بأن النظام القديم سيعود بجبروت أكثر قبل أيام الثورة، لكنه لم يفقد أمله في أن تنصلح الأحوال.
''أم بلال''.. ''متطوعة'' المنطقة
أما ''أم بلال'' فلم تتردد في الإجابة بأن ''الأحوال واقفة في المنطقة'' في رمضان، مشيرةً إلى انخفاض إقبال الجمعيات الأهلية لمساعدة المنطقة عما كان في السابق بسبب ظروف البلد ''الناس انشغلت''.
''أم بلال'' التي لم تكتف بكونها إحدى سكان المنطقة التي يغلب عليها بساطة المعيشة، بل حرصت على التطوع في الجمعيات الأهلية لمساعدة المنطقة، ترى أن ''أجواء رمضان كانت زمان حلوة جدًا مكنش في انقسام''؛ فأكثر ما يزعج ''أم بلال'' كلمة ''إحنا وأنتم''، موضحة أن ''كل حد يقول إحنا عملنا كذا وأنتم شوفوا عملتوا إيه، إحنا كلنا مصريين ربنا يسامح اللي تسبب في كده''.