كتبت - دعاء الفولي:
عربة حديدية مفتوحة من كل الجوانب وُضع عليها الكثير من ''الجراكن'' الممتلئة عن آخرها بالعصير، بجانبها إناء كبير ممتلئ بـ''السوبيا''، وأسفل العربة وحولها تراصت ''البراميل'' التي حملت بداخلها العصير والثلج، الذي يحافظ على درجة حرارة المشروبات في قيظ الصيف وجفاف الجو، لكي يشرب ''الزبون'' العصير ''المثلج'' الذي لا يغيب عن أي بيت مصري في رمضان.
أما السيدة التي وقفت أمام تلك العربة تتنقل يداها من ذلك ''البرميل'' لذلك المكان الذي تجمه بداخله ''النقود''، ثم تذهب فتكسر ما تستطيع من الثلج لتضعه في الأوعية؛ فكانت كما تحب أن يناديها زبائنها ''أم مصطفى''؛ فهي وزوجها صاحبا العربة التي تتواجد في شارع المعز، بالقاهرة الفاطمية، وبين جنبات مساجد الأولياء الصالحين منذ 30 عامًا أو يزيد دون محاولة لتغيير المكان؛ فقد عرفهما أهل الحي حتى أن الشرطة لم تعد تبدي اعتراضًا لوجودهما.
شهر رمضان هو الموسم الذي يتواجدان خلاله طيلة الشهر الكريم بعربتهما، والعصائر التي يبيعونها، التي لم تكن سوى ''التمر هندي'' و''السوبيا''، المصنوعان منزليًا على يد ''أم مصطفى''، وهذا يجعل يومهما شاق ''إحنا بنيجي من منشية ناصر كل يوم في رمضان من 8 الصبح وأنا بصحى من الفجر عشان أعمل العصير، بس عندنا أوضة هنا بنشيل فيها الحاجات، لكن العصير بيبقى معانا وعقبال ما بنخلص بيكون بعد المغرب بشوية فبروح البيت على تسعة بليل''.
''مفيش عصير بيبات الحمد لله''.. تلك هي الكلمات التي ترددها ''أم مصطفى'' دائمًا عندما تتحدث عن مظاهر حب أهل المنطقة لها ولعصائرها؛ فهي تصنع العصير يومًا بيوم؛ ليس فقط لأن ذلك أصح، بل لأن كمية العصير التي تحضرها معها صباحًا تباع قبل نهاية اليوم؛ فيأتي البعض ليشتري منها بعد المغرب فتقول له أن ما معها نفذ، وحتى إن تبقى شيء ''باخده لعيالي نشربه في البيت، بس في معظم الأوقات مش بيتبقى حاجة''.
خمسة بنات وثلاثة أولاد هم أبناء ''أم مصطفى''؛ ورغم ذلك فنجلها الصغير ''محمود'' فقط هو من يساعدها في البيع مع أبيه ''الولاد عندي بيشتغلوا وأنا مبحبش أنزل بناتي يقفوا في الشارع معايا، مهما كان ده شارع ومفيش حاجة مضمونة''، كما أن تمرسها في بيع العصائر منذ سنين لم يكن بسبب أي شيء ''أنا واقفة في الشارع لأن جوزي مريض، وقعد فترة في المستشفى تعبان، وكنت بقف لوحدي والشارع كان بيبقى فيه بلطجية وربنا اللي كان بيسترها مش أكتر''.
الوقوف في الشارع حتى إن وجد له شرطة تحمي المكان؛ فالخطر غير مأمون ''من كام سنة كده قبل الثورة كانت البلدية كل شوية يقولولنا ده شارع سياحي وكنا كلنا بنجري، فكنت واقفة لوحدي، ولما عرفت إنهم جايين جريت وكان معايا حاجات كتير فتعورت ووقعت وفقدت الوعي، ولما لقوني بنزف سابولي حاجتي ومخدوهاش''، مؤكدة أنه من بعد الثورة رغم تواجد الشرطة أحيانًا، لم يعترضهم أحد من رجالها لإنهم ''مش بتوع مشاكل''، على حد قولها.
في باقي شهور السنة تحاول ''أم مصطفى'' وزوجها البحث عن رزقهما بطرق أخرى؛ فمهنة بيع العصائر وقتها محدودة وكذلك ربحها، وإن كان ذلك لم يقلق ''أم مصطفى'' لأن الرزق من الله، إلا أن وجود مهنة ودخل ثابت كان سيساعدها على أن تكمل التعليم لأولادها ''أنا ولادي البنات شاطرين بس اتنين منهم خدوا الدبلوم والتانيين وصلوا للإعدادية ووقفوا عشان الفلوس مكنتش كفاية، بس لو كانوا كملوا تعليم كانوا فلحوا، وابني الصغير هطلعه من ستة ابتدائي عشان المصاريف بقت كتير علينا''، على حد قول ''أم مصطفى''.
''الثورة، المظاهرات، السياسة''.. أمور لا تشغل عقل ''أم مصطفى'' وعائلتها بقدر أن ينصلح حال البلد ويصبح الأمان موجود وكذلك الرزق ''إحنا منزلناش في أي مظاهرات من ساعة 25 يناير ولا في المظاهرات الأخيرة، منزلتش غير في انتخابات الرئاسة والإعادة لكن للأسف مرسي معملش حاجة للناس''.
ورغم أن ''أم مصطفى'' لم تعد تهتم بأي انتخابات، إلا أنها ترى أنه في حالة إجراء انتخابات رئاسية ''مش هختار حد، كلهم دلوقتي زي بعض، كله عايز مصلحة نفسه''.