كتبت - نوريهان سيف الدين:
سنوات على رحيل ''الشيخ إمام''، ولازالت أغانيه ترتفع في كل لقاء للثوار، ''اتجمعوا الأحباب'' في عشق ''مصر البهية'' والضحك من ''بقرة حاحا'' و الاحتفال بـ''الورد اللي فتح في جناين مصر''.. سنوات من الإبداع والتعبير عن روح الشارع، في الفرح والحزن، في النكسة ومرار هزيمتها، وفي التحدي والإصرار على الانتصار.
''محمد إمام أحمد عيسى'' المشهور بـ''الشيخ إمام، مولود في مثل هذا اليوم الثاني من يوليو 1918 بـ''أبو النمرس'' بالجيزة، أصيب بمرض في عينيه في صغره، وأمام الجهل وإهمال العلاج فقد بصره وعمره لم يتجاوز العامين، فقرر والده أن يقضي سني عمره الأولى في حفظ القرآن الكريم على يد''الشيخ عبد القادر ندا'' رئيس الجمعية الشرعية بأبو النمرس.
في طفولته كان يستمتع بحضور أفراح قريته والاحتفالات الدينية والاستماع للإنشاد والغناء، وكانت متعته الكبرى الاستماع لقيثارة السماء''المقرئ الشيخ محمد رفعت'' في الراديو، إلا أن القائمين على الجمعية وقتها رأوا ان ''الراديو بدعة''، وأجمعوا على وجوب فصله من الجمعية لتمسكه بتلك البدعة، فما كان من والده إلا أن عاقبه بشدة وطرده، ليأتي ''إمام'' للقاهرة ويسكن بجوار الجامع الأزهر في منطقة ''الغورية''، ولم يتمكن من رجوع قريته أبدا حتى وفاة والده، حتى أن أمه توفيت ولم يستطع حضور جنازتها ووداعها.
احترف ''الشيخ إمام'' قراءة القرآن في المناسبات والمآتم، وكان أيضًا يؤدي الإنشاد على استحياء، وفي مرة كان ينشد مع أصدقاء له بـ''الغورية''، التقى بالشيخ ''درويش الحريري'' الموسيقي المعروف وقتها، فتبناه موسيقيا وعاهده بالرعاية والتعليم لإعجابه بصوته، واصطحبه في جلسات إنشاده، حتى تعرف على كبار شيوخ الإنشاد والتلحين ومنهم''الشيخ زكريا أحمد''.
أبدى الشيخ ''زكريا أحمد'' إعجابه بـ''إمام'' واصطحبه مع في زياراته لـ''أم كلثوم'' لتحفيظها ألحان أغنياتها الجديدة، فكان ''الشيخ إمام'' يحفظ اللحن و الأغنية ويرددها على العامة في حواري الغورية، وانزعج ''زكريا أحمد'' من هذا وطرده، فما كان من ''الشيخ إمام'' أن يتعلم العزف على العود ليرد الصاع صاعين للشيخ زكريا.
محاولات ''الشيخ إمام'' كانت محدودة حتى التقى برفيق دربه ''الشاعر الفاجومي أحمد فؤاد نجم'' عام 1962، فكونا معا ثنائيًا أطرب المثقفين والعامة على حد سواء، وفتحت نقابة الصحفيين أبوابها لهم لإقامة أمسيات غنائية، إلا أن الأمر لم يستتب لهم طويلا بعد''نكسة يونيو''، ليتحولا معًا إلى الانتقاد الشديد والسخرية اللاذعة للجيش وتخرج أغنية '' الحمد لله خبطنا تحت باطاطنا.. يا محلا رجعة ظباطنا من خط النار''.
فترة من يأس الهزيمة ما لبثت أن تحولت لأمل في الانتصار، وتخرج رائعة ''يا مصر قومي وشدي الحيل كل اللي تتمنيه عندي''، و''مصر ياما يا بهية يأم طرحة وجلابية''، ولكن الهجوم عاد من جديد بعد تبرئة قادة الجيش من مسئولية الهزيمة، وانصراف ''الشيخ إمام ونجم'' في الهجوم اللاذع عليهم، ليصدر حكمًا بسجنهم مؤبد، بعد تهمة ''تعاطي الحشيش'' والتي برأهم القضاء منها.
كان الشيخ إمام وفؤاد نجم ''أول مساجين الغناء'' في مصر، ومن داخل زنازين المعتقلات خرجت أغانيهم تندد بالظلم والاستبداد وتبشر بفجر جديد، و استمر ''الشيخ إمام'' في سجنه حتى ''اغتيال السادات'' ليفرج عنه وتأتيه دعوة من وزارة الثقافة الفرنسية، لإقامة حفلات هناك تلقى نجاحًا كبيرًا، و يجوبا معا ''إمام ونجم'' عواصم عربية وعالمية كثيرة قبل أن ينفصلا لفترة ويعودا قبيل وفاة ''الشيخ إمام'' بوقت قليل.
النهاية جاءت في حجرة صغيرة للغاية بحي الغورية، سنوات عمر تجاوزت التسعين ووهن في الجسد، إلا أن روح الثورة كانت لا تزال شابة عند''الشيخ إمام''، ويرحل''شيخ المغنيين الثوار'' في السابع من يونيو 1995، ويترك وراءه عشرات الأغاني الثورية والتراثية الحاضرة في الأذهان حتى يومنا هذا .