كتب- محمد مهدي:
يتقدم الرئيس جمال عبدالناصر داخل أروقة قصر القبة، بخطوات مسرعة، يتجه إلى قاعة خُصصت لإذاعة بيانه الهام للجماهير المصرية، في مساء يوم 9 يونيو من عام 1967، ليشرح لهم ما حدث، بعد أن حلت ''هزيمة'' بدلًا من ''نصر'' كان يشاع أنه تحقق على دولة الأعداء- اسرائيل-.
يجلس ''ناصر'' خلف مكتب في مواجهة الكاميرات، يستأذنه كبير طاقم التلفزيون في الانتظار دقائق، لإنهاء استعداداتهم لإذاعة البيان على الهواء مباشرة، بينما ينظر تجاه الخطاب الملقى أمامه الذى خطه الكاتب محمد حسنين هيكل، وتقع عينه على كلمات أرهقت قلبه المثخن بالجراح ''ولا نستطيع أن نخفى على أنفسنا أننا واجهنا نكسة خطيرة خلال الأيام الأخيرة''، لترتجف أوصاله.. ''لابد أنه كابوس''.
يُخفض ''ناصر'' من قامته، يقترب نحو ''الكامير''، ينظر نحوها، يُخيل له أنه يرى جموع المصريين، ينظرون له بترقب، وخوف، وأمل، وكأنه يجلس بجوارهم، يسمع همهمات، تدعو الله أن يقول لهم رئيسهم الذى طالما عشقوه قولا ينُهي مأساتهم في الشعور بالهزيمة الموجعة، يرى ''ناصر'' في ملامح شعبه تاريخ الوطن، ثورته مع زملائه الضباط الأحرار ضد الملك فارق، جلاء الاستعمار البريطاني، القضاء على الإقطاع وقانون الأراضي الزراعية، قراره بتأميم قناة السويس، وبعدها بناء السد العالي، محاولة اغتياله بالمنشية، وتمسكهم في المضي وراء قائدهم في البناء والتعمير، وفي الحرب- العدوان الثلاثي- إذا لزم الأمر.
يفيق من شروده على صوت كبير طاقم التلفزيون ''جاهزين يا ريس'' ليبدأ في قراءة الخطاب، بصوت واهن مُشبع بالآلام ونظرات مُنكسرة على غير عادته، قائلًا '' لقد تعودنا معًا في أوقات النصر وفي أوقات المحنة، في الساعات الحلوة وفي الساعات المرة، أن نجلس معًا، وأن نتحدث بقلوب مفتوحة، وأن نتصارح بالحقائق''، ليسرد كيف بدأت الأزمة في مايو عام 1967 بمعلومات أكدت أن إسرائيل ستهاجم سوريا، وكيف تدخلت مصر بدافع الأخوة العربية، فتحركت القوات المسلحة إلى الحدود، وانسحبت قوات حفظ السلام، وتلقيه تحذيرات أمريكية وتنويهات سوفيتية بعدم البدء بالقتال، ليفاجئ في صباح 5 يونيو بهجوم العدو بقوات تفوق قدرته-العدو- ملمحًا إلى تواطؤ الولايات المتحدة وبريطانيا في الأمر.
يوزع ''ناصر'' نظراته ما بين الخطاب و''الكاميرا''.. الأولى طويلة والثانية قصيرة، كأنه يتحاشى النظر لشعبه، كما يحاول أن يشتت تركيزه بعيدًا عن الفنيين الواقفين وراء الكاميرات بعد أن انفجروا في البكاء، وتشنجت أصواتهم كأطفال تائهين، عندما ذكر أنه قرر تنحيه عن الحكم وتكليف زميله زكريا محي الدين بتولي منصب رئيس الجمهورية ''لقد قررت أن أتنحى تمامًا ونهائيًا عن أى منصب رسمي، وأي دور سياسي، وأن أعود إلى صفوف الجماهير أؤدي واجبي معها كأي مواطن آخر''.
قرص واحد من عقار ''سيكونال'' منوم ومضاد للقلق، ابتلعه الرئيس جمال عبدالناصر، فور أن عاد إلي بيته بعد نهاية خطابه، بناء على نصيحة طبيبه، لكي يتمكن من النوم لساعات، وداع مؤقت لعبء وصراعات لم ولن تنتهي، ساعتين فقط رحل فيهما عن الأحداث.. طاف به عقله بداخل عالم الأحلام، شاهد جيش مكتمل، وحرب بطولية، ونصر مبين، وشرف يُسترد، استيقظ بعدها على أصوات حشود من المواطنين المصريين أمام منزله بمنشية البكري، يهتفون له ''ناصر.. ناصر''، رافضين تنحيه، ليخرج إليهم ويعد بتحقيق الحلم.