كتبت - نوريهان سيف الدين:
قال عنه المؤرخ ''الجبرتي'' في موسوعته ''معجم الآثار في التراجم والأخبار'' فلو وفقه الله لشيء من العدالة على ما فيه من العزم والرياسة والشهامة و التدبير والمطاولة لكان أعجوبة زمانه وفريد أوانه''.
هو حالة فريدة من حكام مصر، ومعه يبدأ تاريخ الدولة المصرية الحديثة، ورغم علامات استفهام كثيرة حوله وانتقادات لقراراته الديكتاتورية، إلا أنه يعد ''باني مصر الحديثة''، ويصافد يوم ''17 مايو'' ذكرى توليه حكم مصر بعد 4 أيام من ثورة شعبية قادها ''عمر مكرم'' على الوالي العثماني ''خورشيد باشا'' في عام 1805.
''محمد علي باشا'' ،المولود في 1769 لأسرة ألبانية في شمال اليونان، عمل في بداية حياته ''دخاخني - تاجر دخان''، قبل أن يلتحق بالعسكرية العثمانية، و بذكائه ومهارته استطاع الترقي في الرتب العسكرية، حتى صار ''قائد الكتيبة الألبانية'' في الجيش العثماني المتوجه لمصر لمحاربة الحملة الفرنسية عليها.
بعد فشل الحملة الفرنسية على مصر وعودتها، زاد نفوز الإنجليز على سواحل مصر الشمالية، وعاد أمراء المماليك من جديد لبسط سيطرتهم على ''المحروسة''، فيما انشغل ''الوالي العثماني'' بترضية ''الباب العالي'' لضمان بقائه في الحكم .
كل هذه العوامل بالإضافة لفقر البلاد واضطرابها، زاد من غضب المصريين، ليقرر الأشراف وعلماء الأزهر وعلى رأسهم ''عمر مكرم'' القيام بثورة شعبية واسعة في 13 مايو 1805، وعزل الوالي العثماني ''خورشيد باشا''، ومبايعة ''محمد علي'' واليًا على مصر بشرط أن يصلح الأحوال وإلا عزلوه كما فعلوا مع ''خورشيد''.
تولى ''محمد علي'' حكم مصر، وأقر السلطان العثماني توليه للبلاد في فرمان في ''9 يوليو 1805''، وتودد للعلماء وللكبار، إلا أن ''المماليك'' ظلوا ''شوكة'' في ظهره، مما دفعه للقيام بـ''مذبحة القلعة'' للتخلص منهم، ثم استدار على ''الزعامات الشعبية'' بنفيها وإقصائها حتى لا يلتف الشعب حولها، وكان نفي ''عمر مكرم'' أبرز تلك الزعامات المنفية للإسكندرية.
عمل ''محمد علي'' على التخلص من الإنجليز المحيطين بثغور الإسكندرية وموانيها، وفي عهده فشلت ''حملة فريزر''، وهذا أكسبه نقطة تقدم لدى ''الباب العالي'' فضلاً عن شعب مصر، إلا أن فرضه للضرائب لتجهيز الجيش كان حجر عثرة بينه وبين الشعب، الذي خرج في مظاهرات غضب احتجاجًا على ضرائب ''الباشا'' .
''حروب الوهابية'' التي أرسل نجله ''ابراهيم باشا'' على رأس الجيوش للتخلص من الحركات الوهابية ضد الإمبراطورية العثمانية في شبه الجزيرة العربية، و أبلى ''ابراهيم باشا'' بلاءً حسنًا في دفع ''الواهبيين'' للتراجع وهزمهم، وهنا شعرت ''الامبراطورية العثمانية'' بمدى خطورة ''محمد علي''، بعد أن سيطر على ''بلاد الحجاز'' بما تمثله من أهمية وثقل ديني في الدولة والخلافة الإسلامية، فعملت على التخلص منه، خاصة بعد أن كان نجح في الحصول مسبقًا على فرمان من السلطان العثماني بضم ولاية ''السودان'' لمصر، وجعل الحكم لأبناء محمد علي بـ''الوراثة''، ومنحه لقب ''محمد علي باشا الكبير'' وسعى أيضًا للسيطرة على بلاد الشام، وأوشك أن يمتد زحفه إلى ''الآستانة''؛ حيث معقل الدولة العثمانية خلال ''حروب المورة'' في اليونان.
رغم الحروب والآلة العسكرية التوسعية، إلا أن مصر شهدت على يد ''محمد علي'' نهضة شاملة في الزراعة والصناعة والتعليم، ففي الزراعة؛ استولى ''محمد علي'' على الأراضي المصرية كلها وجعلها ملكًا له، وجعل للفلاحين حق الانتفاع بالزراعة، كما أهتم بزراعة محاصيل ''القطن والتوت لصناعة الحرير'' والأشجار لخشب السفن، وشق الترع وبنى ''القناطر الخيرية''.
أما على مستوى الصناعة، فأسس ''محمد علي'' مصنعين للجوخ والطرابيش في بولاق وفوه، وكذلك مصانع الحرير ومعاصر الزيوت وبنى الترسانة البحرية لصناعة السفن، وفي عهده زادت التجارة والقوافل التجارية المارة بمصر، لكن على الرغم من هذا فكانت العمالة بـ''السخرة'' وإجبارية.
على المستوى العسكري، يعتبر ''محمد علي'' مؤسس جيش مصر النظامي الحديث، بعد أن ظل لسنوات طويلة يعتمد على ''المرتزقة'' والمتطوعين الخاضعين لتدريب مقاتلي المماليك، فأسس مدرسة الضباط بأسوان، والمدارس الحربية، وكذلك مدارس ''البيادة - المشاة'' و ''الخانقاه - الفرسان''، و''الطوبجية - المدفعية''، و ''السواري - البحرية''.
واهتم بالتعليم وإيفاد البعثات التعليمية، بعد أن كان التعليم في مصر محصورًا على ''الأزهر الشريف'' والكتاتيب، فأرسل بالقوة جنوده للإتيان بالأطفال و تعليمهم في المدارس بالقوة، وأرسل بعضهم للخارج لنقل علوم فرنسا، وكانت من ضمن طلابه المبعوثين في الخارج ''الشيخ محمد عبده ورفاعه الطهطاوي''، كما اهتم بإنشاء مدارس الترجمة ''مدرسة الألسن'' والطب والعمارة.
''محمد علي''.. اسطورة حكم مصر، لم تنتهي سنوات حكمه نهاية سعيدة، بل عزلته السلطنة العثمانية وحددت أملاكه، وهو ما أصابه بالجنون، وزاد همه مرض ابنه ''ابراهيم'' بالسل ووفاته، والذي حكم مصر ستة أشهر بعد عزل السلطان العثماني لوالده، ليأتي بعدهم طوسون ''عباس حلمي'' ويموت ''محمد علي في 2 أغسطس 1849 بقصر رأس التين بالإسكندرية، ويدفن في القلعة، وتستمر الأسرة العلوية في الحكم حتى قيام انقلاب يوليو 1952.
''محمد علي''.. بنى مصر الحديثة فأنتهى ''بالجنون والعزل''
منوعات -