كتبت - دعاء الفولي:
يوميا عقب شروق الشمس بقليل يخرج كغيره ليسعى على قوته؛ يذهب لذلك الرصيف ليرافقه طوال اليوم فأحيانا يجلس عليه ومعه ''شاكوش'' اتخذه كعدة له ليعمل بها في التكسير إذا ما جاءه زبون، أو يغير ''الصنعة'' أحيانا ليصبح بائعا للشاي والقهوة في الشارع، أو حتى يغير المهنة للمرة الثالثة ليصبح ''سباك'' إذا ما طالبه أحد بذلك؛ وسواء أكان ''فواعلي'' أو ''بائع شاي'' أو ''سباك''؛ فذاك لا يهم طالما أنه سيعود لبيته حاملا في جيبه حفنة من النقود في نهاية اليوم.
هذه فلسفة ''أحمد فرج'' صاحب الثلاث مهن في الحياة، وهي ما جعلته رغم أن عمره لا يتجاوز الخامسة وعشرين عاما يعمل فيها جميعا بشكل متقطع عله يوفر ما يغنيه عن السرقة أو الشحاتة، لكن تبقى مهنة ''الفواعلي'' هي الأصل الذي تركه نظرا لضيق الحال بها.
هو شاب آخر جاء من مركز منفلوط بمحافظة أسيوط منذ أكثر من عشر سنوات راغبا في العمل بعيدا عن مدينته التي لم يستطع الحصول على عمل فيها؛ فبدأ العمل في القاهرة في ''الفاعل''، وأصبح عاملا حرا يتحرك من مكان للآخر مع عدته ثم بعد سنين العمل المتواصلة ''جاتني فرصة السفر برة، ما صدقت إنها جت سافرت على ليبيا علطول طيران عشان انا مبحبش السفر بالطرق الغلط''، لكن السفر جعل ''فرج'' يغير مهنة ''الفاعل'' ليصبح ''سباك'' لأن هذا ما طلبه سوق العمل هناك.
أربع شهور قضاها ''فرج'' في ليبيا بدأت منذ شهر رمضان الماضي لتنتهي في شهر ديسمبر لعام 2012 تحت ضغط الظروف المعيشية التي اضطرت ''فرج'' للعودة لمصر فهو ''انا كنت في ليبيا مكسبي ممكن يوصل حوالي 1000 جنية مصري في اليوم، بس الأربع شهور اللي قعدتهم هناك تعبت فيهم، بهدلة ومرمطة وقلة قيمة لحد ما اضطريت أرجع غصب عني على مصر''.
روى ''فرج'' أن ما مر به في ''ليبيا'' على حد قوله ''مأساوي''؛ فقد كان ومن معه من المصريين غير آمنين بسبب عدم وجود شرطة بشكل كبير، ووجود بعض العصابات التي تسرق المواطنين العُزّل في الشوارع والبيوت؛ فقد قال إن ''كنا في السكن كلنا مصريين، نلاقي مثلا دخل علينا سبعة تمانية عيال معاهم أسلحة أخدوا التليفزيونات والموبايلات واللي معاه فلوس يطلعها، كنا بنخاف نخرج من السكن بعد المغرب عشان محدش يتعرضلنا، خاصة إننا مكناش بنشيل سلاح''.
جاءت القشة التي قسمت ظهر البعير؛ ففي يوم من أيام العمل طلب أحد الزبائن من ''فرج'' إصلاح ''سخان'' له، وفي أثناء العمل ''من غير ما أقصد قطعت جلدة من السخان، لقيت الراجل اللي انا شغال عنده بيرفع عليا السلاح، اتحايلت عليه وقولت له هجبلك واحد بداله، قاللي انت مش هتبقشش عليا وفضلنا نلف طول اليوم بعربيته عشان ندور على الجلدة دي وفي الآخر صلحتهاله وقاللي انا آسف عشان رفعت عليك السلاح.''
لم يعمل ''فرج'' بعد تلك الحادثة يوما آخر في ليبيا، إذ قام بتدبير السفر سريعا حتى أنه سافر من الطريق البري الذي كان محفوفا بالمخاطر وبقطّاع الطرق، ولولا أن السائق كان ليبيا وكان يستطيع دفع ''إتاوة'' يجمعها من المسافرين معه، لما وصل أحد منهم إلى بيته سالما.
بعد عودة ''فرج'' لمصر لم يتحسن وضعه، بل ازداد سوءا فاضطر لتغيير مهنة ''السباكة'' لأن ''اشتغلتها لما رجعت مصر ولقيتها مش جايبة همها ومش عارف أجيب منها فلوس، فاضطريت اعمل نصبة شاي ودي حاجة مؤقتة''.
''دبلوم الصنايع '' الذي يحمله ''فرج'' جعله يقدم على الوظائف التي اُتيحت لمن هم في مثل تعليمه عقب ثورة 25 يناير، لكنه لم يحصل على عمل حكومي، مما جعله يستمر في مهنة ''الفواعلي'' على الرغم من مخاطرها فهم ''احنا شغلتنا الأساسية بتبقى تكسير إيشاني أو سيراميك على حسب الشغلانة، لو حد فينا اتعور ملوش تامين، ولسة واحد صاحبنا متعور في عينه بقاله كام شهر في المستشفى وبيتعالج على حسابه''.
بين السفر والعودة والخروج من بلدته وتغيير العمل كان ''فرج'' يحاول الحصول على العمل الذي يضمن له بشكل أكبر مبلغ مادي يوميا، فعلى حد قوله لا توفر له مهنة بيع الشاي في اليوم الواحد أكثر من 45 جنية ينفق منهما على زوجته التي أحضرها من ''اسيوط'' حديثا وطفليه ''كريم'' و''علي'' كما أنه ''بنزل من صباحية ربنا، لدرجة ساعات مش بيبقى معايا فلوس أشتري سكر عشان أحطه ع الشاي، فباخده من السوبر ماركت من غير فلوس لحد ما أسدد له حق باكو السكر آخر اليوم، المهم أرجع لولادي بأي فلوس.''
تجربة السفر السيئة التي مر بها ''فرج'' لم تثنيه للحظة عن معاودة التفكير في السفر مرة أخرى إذ قال إن ''لو فيه شغل هنا كنت قعدت، بس مفيش، على الأقل الحكومة لو مش عارفة تشغلنا في البلد تسفرنا برة، أو تدينا فلوس نسافر بيها وتاخد ضمان''، موضحا أن ''انا مش ساكت دلوقتي، بحاول أشوف أي سفرية هروح برة وأشتغل أي شغلانة أأكل بيها عيالي ومراتي''.