كتبت - يسرا سلامة:
يدخل القطار محطة سكة حديد الجيزة؛ تظهر لك ملامحه كلما اقتربت من نهاية رصيف المحطة، فتراه جالساً على كرسي خشبي بجانب غرفة احتلت مكانها على حافة شريط القطار؛ خصصتها هيئة السكة الحديدية لعامل ذلك المزلقان.
مزلقان الجيزة؛ ليس من المزلقانات الكبيرة فمساحته لا تتعدى أمتار، وإن كان وجوده بجوار محطة القطار، جعل نسبة وقوع الحوادث أقل حيث إشارة غلق المزلقان هى صافرة القطارة للتحرك، لكنه كغيره يحمل الكثير من الهموم والمشكلات في قلوب عامليه، الذين يكونون أول كبش فداء في حال وقوع كارثة دون النظر إلى أحواله وعيشته التي يقضيها في مهنة عفى عليها الزمن.
ربما ذلك يفسر لك التعب والضيق الذي يحمله وجه ''عم محمد'' عامل مزلقان الجيزة، فمجرد أن يذكر له الرغبة في الحديث معه يلاحقك بكلمات يبدو عليها الآسى '' هقول إيه خلاص تعبنا من الكلام، الواحد على آخره من كتر الكلام ومفيش فايدة''.
يقف ''عم محمد'' أو ''أبو سيد'' كما يحب أن يلقبه زملائه لمتابعة عمله الشاق عليه كما يصفه، ليتمه بدقة، خاصة وأنه المسؤول الوحيد على متابعة هذا المزلقان وقت ورديته، فلا رفيق له سوى سلسلته الحديدة التي تراكم الصدأ عليها.
ولا يقتصر عمل '' عم محمد'' على منع الناس والسيارات من المرور وقت مغادرة القطار، بوضع السلسلة الحديدية لتحجزهم خلفها، وإزاحة الأطفال عن طريق القطار بعد أن يتنقل بين دفتي الطريق وحده، بل يتولى مهمة رجل المرور في تنظيم الطريق للسيارات والمارة، '' فالأشارجي'' المتواجد بالمزلقان يرحل بعد الساعة الثانية ظهراً.
كرسي خشبى متهالك وصافرة هى أنيس '' عم محمد'' الوحيد في عمله الذي يبدأ منذ السابعة صباحاً وحتى السابعة مساءاً، إلى جانب صديقه '' عامل الكارتة'' الذي يأتي بين الحين والآخر لمساعدته رغم أن في معرفة ذلك ضرر عليه لكنه يفعل هذا '' بحكم العيش والملح''.
اثنا عشر ساعة متواصلة يكدح فيها ''عم محمد'' من أجل تنظيم المزلقان دون تهاون، و حتى لا تحدث ''مصيبة'' تضيع معها أرواح المارة، على الرغم من ضيقه في أوقات كثيرة من تصرفات المارة ليس فقط في إصرار البعض على العبور لكن في ما وصفهم ''احنا بتعامل احياناً مع بلطجية مش بني آدمين عاديين''.
يعرف ''عم محمد'' بعضاً ممَن يمروا عليه طوال اليوم، وكأنهم جزء من عائلته؛ يتلقى منهم السلام بحسب مواعيدهم فى اليوم أثناء مرورهم لكى يهونوا عليه مرارة باتت في حلقه طوال حديثه؛ فأربعة أولاد أكبرهم بالمرحلة الجامعية وزوجة مشقة لا تعينه عليها الحكومة سوى بـ800 جنيه، يظهرهم لك دون خجل إذا جئته وقت '' القبض''، لكنها لا تكفى لتعليم أولاده، لذلك يعمل مساءاً في وردية عمل آخر.
يتمنى ''عم محمد'' أن يشعر به المسؤولون وبأحواله، وغيره من عاملي المزلقان، خاصة وأن عملهم لساعات متأخرة يعرضهم للبلطجية وحاملي السلاح، الذي شهد ازديادهم بعد الثورة كما وصف'' من ساعة الثورة ومفيش أمن فى المحطة هنا ..ولو فرد أمن شاف بلطجى قرب منى مش هيعملى حاجة دلوقتى''، ففرد الأمن المفترض أن يكون بجانبه غير موجود، وكل ما يعتمد عليه '' ستر ربنا'' .
وعلى الرغم مما يحمله '' عم محمد'' وتخفيه كلماته القليلة ما بين الحمد وما يظهر فيها من حسرة '' للأسف الثورة باظت'' وإن فضح وجهه الكثير، غير أنه لن يتركك دون أن يدعو لك بالتوفيق .