كتبت - يسرا سلامة:
تحت لهيب الشمس الحارقة، وسط زحام سائقي الميكروباص والسيارات من الرجال، تجدها واقفة؛ تنتظر أن يأتي دورها لملئ عربتها بـ''الجاز''، بعد يوم عصيب وقفت فيه منذ التاسعة صباحاً وحتى الرابعة عصراً في ''طابور'' يتحرك ببطء.
''أم يحيى'' سيدة تجاوزت الخمسين عاماً، مهنتها ''بائعة جاز'' في مصر القديمة ودار السلام؛ إن كنت من أبناء المنطقة وتحتاج إلى الجاز، فحتماً ستتعامل معها في يوم من الأيام، تحمل من الرجولة صفاتها، ومن الجدعنة ما يكفى لأن تنفق على زوجها المريض وأبناء بناتها.
عشرين عاماً قضتها ''أم يحيى'' على عربة الجاز الخاصة بها، بعد أن أصابت الجلطة زوجها، فأبت أن تكون قعيدة أو تمد يدها لخلق الله، استدانت من القادرين لشراء عربة جاز وحمار أنهكته هو الآخر حرارة صيف القاهرة ، لتبدأ رحلة كفاح يومي في شوارع مصر القديمة، لم تنتهى حتى الآن.
تتذكر ''أم يحيى'' وملامح الاعتزاز بعملها تكسو وجهها، رحلة عملهها التي تصل لـ20 عاماً وتقول: ''العربية بـ 600 جنيه والحمار بـ400 جنيه، وخدت رأس المال من واحد ساعدني، اشتغلت وجمعت المبلغ لحد ما بقت عربيتى وحماري ملكى''.
''ماليش كار إلا الكار ده.. ولادى وولاد ولادى وبيتى وكله بياكل منه''.. هكذا تحدثت ''أم يحيي'' بصوت أخذ من قوة الرجال عن مهنتها؛ فبيع ''الجاز'' أهون عليها من الخدمة في البيوت ''أنا مخدمش فى البيوت عشان واحدة تبيع وتشترى فيا.. ولا كلام الناس يزيد، أنا ست حرة.. اشتغلت عشان ما احتجش لحد''.
لم تأخذ من عشرين عاماً فى بيع الجاز إلا خشونة في القدم ومرض السكر، لكنه لا يضعفها من جر عربتها يومياً لبيع الجاز ''بطلع بعربية الجاز استرزق بيها، اللى معاها جركن بملاه، والجاز اللى يفيض بخليه لتاني يوم'' .
تنفق ''أم يحيى'' على زوجها ونفسها وبنتيها الاثنتين، بعد أن طُلقت واحدة وترملت الأخرى، ليبقى من أولادها خمسة نادراً ما يسألون عنها، وتقول ''أم يحيى'' وصوتها يبدو عليه الحزن: ''كل واحد منتبه لنفسه وبيته''.
لا يزيد ألم ''أم يحيى'' سوى ساعات الانتظار الطويلة فى بنزينة ''التعاون'' بمنطقة ''دار السلام'': ''والله تعبنا ومتبهدلين في الشارع، والناس فى البنزينة آخر غلاسة وقلة أدب، ده يخبطني وده يزقنى، والظباط مش عايزنا ناخد جاز إلا لما بتوع الجراكن يخدوا''.
ساعات الانتظار فى وسط البنزينة لا يهونها إلا أكواب من الشاي الساخن، بعد أن ''حرق دمها'' كما تصف، علبة ''كشرى'' كافية لتسد جوعها حتى تقف على قدميها طوال اليوم، بعد ظهرت أعراض الإرهاق على ''الشبشب الزنوبة'' التي تحاول إخفائه بجلبابها الرث، لا يقلقها سوى فشلها في تحضير الطعام لأحفادها، بعد الوقوف في وسط البنزينة المزدحمة طوال النهار '' مش عارفة اعمل شوية أكل لأحفادي !''.