كتبت - نوريهان سيف الدين:
كتبت له النجاة بعد أن شاهد بعينه الموت، ذكريات أليمة لا تفارقه، وآثار كسر بالجمجمة وجرح غائر بالرأس لا يفارقانه، لازال يحكي ذكرياته في ''مدرسة الموت'' وكأنها حدثت بالأمس، يستحضر طابور الصباح وزملائه بالصف والحصة الأولى، ثم أزير طائرات يقترب وصوت انفجار، لتتداخل الأصوات مع صراغ وبكاء زملائه وهو معهم، وهرج في المكان لمحاولة الأطفال الهروب من الجدران التي تتساقط عليهم، إلا أنه يدخل في غيبوبة، ولا يفيق إلا في ''مستشفى الحسينية'' ليعرف تدريجياً أن نصف زملائه استشهدوا من بينهم صديق طفولته، والنصف الآخر يرافقونه في رحلة العلاج.
''أحمد الدميري'' الذي كان منذ 43 عاماً أحد طلاب ''مدرسة بحر البقر الابتدائية المشتركة''، رجل على مشارف الخمسينات من عمره، يسكن بيتاً بسيطاً للغاية في قرية ''بحر البقر'' التابعة لمركز الحسينية بمحافظة الشرقية، منزل لا تفصله عن موقع ''حطام'' المدرسة القديمة ونصبها التذكاري سوى عشرات الأمتار، ولا يفصله عن المدرسة الجديدة ''مدرسة شهداء بحر البقر''؛ حيث مكان عمله الحالي سوى عدة أمتار أيضاً.
يبدأ أحمد كلامه ويقول: ''كان يوم عادي جداً وكنا متعودين على صوت الطيارات الحربية، احنا قريبين جداً من بورسعيد اللي كان فيها الحرب وقتها، المهم يومها الصبح خلصنا الطابور بسرعة عشان كانت الطيارات بتعدي من فوق المدرسة وطلعنا الفصول والطيارات فضلت راحة جاية كأنها بتستعرض علينا، و لسه فاكر لما المدرس وقف يتفرج عليها من الشباك وقالهم ''إمته هنخلص منكم''.
يواصل ''الدميري'' حديثه فيقول: ''فجأة سمعنا صوت خبطة جامدة رجت المدرسة عرفت بعدها في المستشفى أنها كانت ''قنابل'' اترمت علينا، وسمعت صريخ وعياط زمايلي والكل كان بيجري وخايف، وأغمى عليا وفوقت في المستشفى، وعرفت إن صاحبي مات وباقي صحابي معايا بيتعالجوا في المستشفى''.
يتحسس آثار جرحه القديم برأسه ويقول: ''جاني كسر في الجمجمة وخيطوني كام غرزة، والدنيا اتقلبت وجه هنا المحافظ و''السادات'' وكان وقتها لسه نائب للرئيس عبد الناصر، وجالنا ناس وصحفيين أجانب، وعرفنا إن الطيران الإسرائيلي كمان ضرب الجمعية الزراعية هنا جنبنا في نفس اليوم، وضرب ''ورشة حدادة'' كان جواها 10 بحجة إنهم بيصنعوا أسلحة يهربوها للمقاومة في بورسعيد، لكن محدش جاب سيرتهم والكل اهتم بالمدرسة عشان الأطفال'' .
لا زال ''الدميري'' مرتبطاً بمدرسته القديمة، فبقاياها لازالت موجودة شاخصة أمام أهل القرية كلما مروا أمامها، كما أنه يعمل سكرتيراً بالمدرسة الجديدة ''مدرسة شهداء بحر البقر''، ويرى يومياً بقايا مقتنيات زملائه الملطخة بالدماء، كما يرى صورته وهو طفل مصاب في مستشفى الحسينية بجوار صور أخرى لزملائه بالمدرسة.
''جريمة الحرب لا تسقط بالتقادم''.. هكذا قال ''الدميري'' والذي أبلغنا أنه رفع قضية بمحاكم القاهرة ضد ''إسرائيل'' لقصفها لمدرسة بحر البقر ''استهداف مواقع مدنية وقتل مدنيين''، وقال أن الذي ساعده في رفع الدعوى المحامي ''عصام الإسلامبولي''، إلا أن القضية لم تكمل وأجهضت في عصر النظام السابق.