كتبت - إشراق أحمد:
يسير قابضاً بيديه على ''صينية'' وضع فوقها عدد من الأكواب؛ خطواته البطيئة لا تمنع من اهتزاز تلك الأكواب حتى تكاد تقع بمجرد أن يحتك به أحد المارة عن غير قصد وسط زحام شارع ''إسماعيل أباظة''.
يظل يمر بجلبابه المهلهل بين الباعة وأصحاب المحلات المعروف بينهم؛ مرة بأكواب ممتلئة وأخرى فارغة بعد أن ينتهوا من شرب ما فيها، ليعود في كل مرة إلى حجرة ذات باب حديدي صدئ، وسلالم غير مستوية تنزل لأسفل، بعد عبور أول تقاطع للشارع فور الخروج من السوق المتواجد به؛ فهنا مقر ''جمعة'' بائع الشاي بالشارع منذ 40 عاماً قضاها من عمر عمله بهذه المهنة التي لم يبرحها منذ 60 عاماً.
''جمعة'' يأتي في الثامنة صباح كل يوم من منطقة الناصرية بالسيدة زينب إلى شارع ''إسماعيل أباظة'' ليبدأ عمله الذي لم يحاول تغييره منذ أن ترك موطنه بأسوان أواخر عام 1949 آتياً إلى القاهرة، ومعها استمر في حمل ''صينيته'' بما عليها من شاي وقهوة وينسون وغيرها من المشروبات الساخنة المطلوبة من قبل البائعين ''لأ محاولتش أغيرها أهو بيقولوا اللي تعرفه أحسن من اللي متعرفوش''.
ويتذكر ''جمعة'' أول عمل له فور مجيئه للقاهرة مع أصدقائه: ''اشتغلت في صيدلية وقعدت شهر ومكملتش كان مرتبها 4 جنيه في الشهر، وكان في مصاريف للسكن فسبتها''، لينتقل للعمل بالشاي في مقاهي بمنطقة عابدين ومنها إلى شارع ''إسماعيل أباظة''، الذي اختلف عما عليه الآن: '' مكنش في الزحمة دي كلها يا دوب ناس معدودة؛ الشارع ده كله مستجد مفيش غير أصحاب المحلات اللي واخدين من زمان ''.. قالها ''جمعة'' .
10سنوات عمل فيها ''جمعة'' بمفرده منطلقاً من تلك الحجرة المقتطعة من إحدى المخازن والتي يؤجرها من أصاحبها؛ فعمره الذي يقترب من الثمانين عاماً فرض عليه ذلك بعد أن كان يعمل في المقاهي ''اشتغلت في قهاوي بس دلوقتي السن ميسمحش ودي حاجة على قدي كده تسالي''، قالها بصوت ثابت رغم ملامحه المصرية السمراء الطاعن عليها العمر.
لم يتعلم ''جمعة'' سوى عام واحد فقط بأسوان فيما أشبه بالكُتّاب، إلا أنه حرص على تعليم أبنائه الأربعة '' ولادي دخلوا مدارس بس دلوقتي البنتيت اتجوزوا وواد بيبيع حاجات عند محطة السيدة وعندي ولد في إعدادي'' .
وعلى الرغم من أن ''الرزق'' قل بعد انتشار المقاهي مكان عمل ''جمعة'' إلا أن كلمات الحمد تصاحب الـ '' 20 جنيه'' التي يحصدها بعد انتهاء يومه على أقل تقدير، حتى مع الأيام التي '' يبقى الشغل ضعيف في الجمعة والسبت والخميس برده شوية''.
''أهي ماشية بنعديها''.. تلك الكلمات التي يتمسك بها بائع الشاي الثمانيني أمام ما يضايقه، مقابل السعادة التي تنتابه عندما يرى '' أولادي كويسين بفرح، ولما برده بشوف الناس مبسوطين وحلوة ببقى زيهم مبسوط ''.
ثورة 25 يناير هي الثانية التي شهدها ''جمعة'' بعد 23 يوليو التي تذكره بالرئيس جمال عبد الناصر وبالحال الآن '' كانت أيام حلوة.. دلوقتي تعب شوية والحاجة غالية''، ومع ذلك لا يرى اختلاف حدث طوال هذه السنوات '' أقول بصراحة أيام جمال وأنور السادات وحسني مبارك هي الجلابية والفانلة وبس يعني لا زيدنا ولا خسينا؛ الشقا والتعب والشغل هو هو'' .
''نفسي أشوف الناس حلوة والواحد يستريح ويلاقي المعيشة حلوة وياخد حاجة لعياله ويروح مبسوط''.. هذا كل ما يتمناه ''جمعة'' داخل حجرته الصغيرة.