كتبت - إشراق أحمد:
وقف أمام عربة ''البطاطا'' التي اعتاد جسده الصغير تحمل ثقل دفعها، وحرارة نارها؛ وجه صغير ونظرات عيون في ظاهرها بها ثبات فضول الأطفال، وفي باطنها بدا التيه والشرود حال ساعات التجوال خلف العربة بدخانها الساخن.
دقيقة وست ثوان؛ ربطت الكثير وعرفتهم على ''عمر'' أو ''بائع البطاطا'' - الاسم الذي سبق معرفته به عن اسمه الشخصي - ذلك الطفل الذي لم يتجاوز الثالثة عشرة من العمر قبل 3 فبراير 2013 كانت صفة المجهول هي الرفيق، وبعدها بأيام ظلت كذلك، حتى تم الكشف عن سقوط طفل شهيد بميدان التحرير.
إنه ''عمر صلاح عمران''؛ الطفل الذي جاء الموت ليدخله أخيراً في زمرة المعلومين، برصاصتين تتبع الأمن اخترقت جسده الواهن من الفقر والتعب، إحداهما في الصدر والأخرى بالرأس.
صور انتشرت له هنا وهناك، وفيديو قصير لحديث دار معه، هي كل ما تبقى من ''عمر'' في ''المعلوم'' الذي ربما تمنى يوماً أن ينتمي إليه، ويفارق '' المجهول'' الذي كلما ذهب فثم وجهه.
ولعل ذلك ''الفيديو'' المصور جاء أشبه بالرسالة، حرص مصوره الذي جمعته الصدفة بـ''عمر'' على نشرها بعد معرفة خبر وفاته؛ حيث كانوا على موعد مع القدر؛ حياة بائع ''البطاطا'' احتوتها دقائق بما فيها من تعب، وحلم، وخوف أدى إلى إخفاء حقيقة بدافع كف الأذى، والرثاء على حال كثير أمثال ''عمر''.
بصوت ضعيف على استحياء تحدث ''عمر'' بعد سؤال: ''اسمك.. قولي اسمك''، ليأتي رده كإجابة الطالب أثناء ترديده لشيء حفظه: '' عمر طه إبراهيم عباس''.
''عشان أأكل إخواتي وأأكل أمي''.. هكذا كان سبب لجوء ''عمر'' للعمل في سن صغيرة مجيباً على سؤال '' أنت شغال الشغلانة دي ليه ؟''؛ فهو '' بقالي بتاع خمس سنين''.
وبصوت لازال لا يفارقه الاستحياء والتردد قالها ''عمر'': '' بقاله سنة''، بعد أن استمر صوت المصور في الخلفية طارحاً للأسئلة، غير أن هذه المرة بدا وكأن ''عمر'' أخبره قبل التصوير عن وفاة والده '' وباباك متوفي من امتى''؛ رهبة التواجد وسط قوة غيره من البائعين ربما كانت مبرر لإخفاء الحقيقة واستدراك التعاطف حتى يترك بائع '' البطاطا'' في عمله دون مضايقات، خاصة وأنه بعد وفاة '' عمر'' تأكد أن والده لازال على قيد الحياة.
استمرت الأسئلة طوال الدقيقة المصورة دون أن يغادرها اهتزاز صوت ''عمر'' المقاوم للخروج؛ '' عندك كام أخ وأخت''.. كان السؤال؛ فجاءت إجابته : ''عندي عندي تلات تلات.. تنين بنت واحد ولد''.
''عمر'' كان الأخ الأوسط بين أخوته وظهر ذلك من إجابته عن عمر إخوته ''أميرة عندها 15 سنة ومني عندها 12 سنة وحسان عنده 3 سنين''.
جاء ذلك الفيديو حاملاً لأمنية ''عمر'' التي يدفعها مع عربة '' البطاطا'' أينما ذهب أنا تعبت من الشغلانة دي عاوز أغيرها''، هذا كل ما كان يطلبه '' عمر'' ويريده.
''أنت بتعرف تقرأ وتكتب''.. مع هذا السؤال أعلن ''عمر'' عن صمته فكانت إيماءاته أكثر تعبيراً عنه؛ حيث نفى برأسه وفمه ينطق بها خافتة ''لا''، وإن كانت كلمة ''نفسي'' التي أجاب بها على ''نفسك تتعلم''.. جاءت حاملة لكثير من المعاني الخفية.
لتُختتم آخر ثوان لـ''عمر'' في الفيديو بإيماءة رأسه موافقاً على ''نفسك تشتغل كويس''، ظاهراً في الخلفية آخر كلمات المصور '' إن شاء الله هنساعدك يا عمر''.