كتبت - إشراق أحمد ودعاء الفولي:
لم يكن بالنسبة لها فقط ابن؛ وإن كانت هي لم تختلف كأم اكتملت فرحتها بمجيء صغيرها الأول، ليصبح هو فرحتها الأولى وكأن لم يسبقه إليها شيء؛ بل شاء القدر أن يكون أمل يزيدها صموداً ومقاومةً في الحياة من أجل لقاء مُنتظر تُوفى فيه الحقوق.
''نيرمين جابر'' إحدى الأمهات اللاتي تمر هذه الأيام عليهن معلنةً اكتمال عام الحزن، على من كانت تُقر العين برؤيتهم؛ على من افتقدت ''التالتة شمال'' بمدرجات كرة القدم هتافهم وأياديهم المرتفعة بالتشجيع.
''إسلام حسن'' صغيرها ابناً وكبيرها بين أخواته الأربعة، والغائب الحاضر عندها منذ فبراير 2012 المنصرم؛ لا تلبث أن يُذكر اسمه حتى تظهر لهفة الحديث فلا يعرف الملل طريقه للمتحدث ولا السامع؛ 14 عاماً و40 يوم هي كل سنوات عمر ''إسلام'' التي سجلته كأصغر شهيد سقط بأحداث ''مذبحة استاد بورسعيد''.
تخبرك عن راحتها ''شوية'' بالحكم الصادر مؤخراً في القضية ولا تترك مجال للشك بالتأكيد على أن '' لكن لسه حقنا مجاش، حقنا عند الداخلية هي اللي دخلت البلطجية وهي اللي قفلت عليهم الباب وهي اللي قتلتهم.. حق ولادنا عند الداخلية وعند طنطاوي هو اللي كان ماسك البلد وقتها ومتأكدين أن الداخلية ماعملتش كده إلا لما أداها الضوء الأخضر بعد ما هتفوا في الماتش الأخير يسقط يسقط حكم العسكر، وفي 9 مارس أحنا مكملين لغاية ما يجي حقهم''.
تلاحقت كلمات ''نيرمين'' الأم تباعاً، لكن تلك التي طالما قالتها والدتها عن ''إسلام'' مازال لها أولوية الانطلاق للحديث عن '' أحن أولادي.. مش عشان ابني ولا لأنه توفى لكنه كان حنين جدا عليا''، ولذلك كانت ''والدتي على طول من كتر ما كان إسلام أحن ولادي عليا، يعني مكنش زي الولاد اللي في سن المراهقة بيزعقوا وعايزين يخرجوا على طول؛ بالعكس كان عاقل وهادي لدرجة أنها كانت بتقولي إسلام ده شكله ابن موت''.
وبمجرد ذكر تلك الكلمات لم يستطع مشهد تعامل ''إسلام'' مع والدته أن يتركها '' كان بيبوس إيدي وراسي في اليوم يمكن أكتر من عشر مرات ولما اتضايق منه أو مكلموش كان يجيب الحزام ويقولي اضربيني قطعيني من الضرب بس ماتخاصمنيش مقدرش استحمل عدم كلامك ليا''؛ لُيسارعها ترديدها الدائم بالدعاء له '' بقول على طول يارب على قد حنية قلبه حن عليه''.
وعن أمنيات ''إسلام''؛ كيف يمكن أن تتناسى الأم التي رأت تفوق ابنها البكري '' إسلام كان في مدرسة لغات جي أي أس كان متفوق جداً، بيطلع من الأوائل على طول، ابني كان نفسه يطلع طيار''.
وبمشاعر فياضة تتذكر كلماته كأنه أمامها '' كان يقول لي يا ماما نفسي أطلع طيار وألف العالم كله''، متذكرة نقطة ضعف صغيرها '' رغم أنه كان قلبه خفيف جداً، كان بيخاف من الضلمة؛ حتى لما الدرس كان بيبقى متأخر كان يتصل وباباه يروح ياخده''.
وهو ما جعل''إسلام'' يغير مسار أحلامه بعض الشيء '' قال لي يا ماما أنا نفسي أكون طيار بس لأن صعب أسوق طياره هبقى مهندس إن شاء الله وبرضه هلف العالم كله''.
''كان عنده طموح كبير'' قالتها والدة ''إسلام'' ولازالت لهفة الحديث عنه تأبى أن تتركها دون توضيح لطموح ابنها وأمنياته التي لم تقتصر يوماً على ذاته، فهو ''كان نفسه البلد تبقى أحسن، وكان نفسه ينزل التحرير وقت الثورة لكن باباه كان بيرفض، وقتها كان عنده 13 سنة؛ فكان يقول له يا بابا أنا عندي 13 سنة وصحابي كلهم بينزلوا لازم انزل عشان خاطر بلدي، باباه يقوله يا إسلام في ضرب وناس بتموت أنت عايز تحرق قلبي عليك''.
ولم يأت رد ''إسلام'' إلا أن '' يعني يا بابا الشباب اللي بتموت دي مالهاش أهل، لما أموت شهيد أحسن من أني اعقد وأخزل بلدي''، وبالفعل نزل '' إسلام'' إلى الميدان أكثر من مرة .
''إسلام'' كان لا يعرف الصمت أمام ما يراه خطأ ولو من أقرب الناس إليه؛ فهو كما قالت والدته '' كان على طول في انتقاد مع باباه''، وغالباً ما كانت سياراتهم الشاهد على ذلك '' كنا راكبين في العربية باباه كان هيرمي حاجة من الإزاز راح قفل الشباك، وقال ما ينفعش تعمل كده يا بابا وكان متضايق جدا، قال له يا إسلام الشوارع أصلا مش نضيفه''، لكن ''إسلام'' قال إن '' بلدنا لازم تبقى أنضف بلد لما كل حد يقول كده ويرمي الشوارع مش هتبقى نضيفة ''.
استمرت والدته ''إسلام'' في تذكر مواقف صغيرها فقالت '' باباه كان بيربط حزام الآمان بس وقت الدخول على لجنة''، فلا تتوقف كلمات ''إسلام'' عن قول '' لا يا بابا مينفعش''، وأخيراً '' كان مرة في مخالفة فأدي لبتاع المرور 20 جنيه فإسلام أتضايق جدا وقاله يا بابا حضرتك عملت حاجة غلط قال له يا إسلام المخالفة دي ممكن تبقى بـ1000 جنيه أنا أديته 20 جنيه وخلاص''.
ودائما ما كانت الأم تقف إلى جانب ابنها ليقينها أنه على حق '' كنت عارفة أنه صح ومن وراه كنت بقول لباباه إسلام صح''، فهي ترى أن '' الجيل بتاعنا بالنسبة له الحاجات دي بتعدي وخلاص إيه المشكلة لكن إسلام والجيل الجديد اللي بعدينا عايز البلد تبقى أحسن عشان كده بيموتوهم''.
لا ينتهي الحديث عن ''إسلام'' ومواقفه في حياة والدته التي أكثر ما آلمها وأثر بها في موته هو أن '' وقت الثورة وبعدها كنت بتابع الأحداث أول بأول كنت بشوف اللي بتعمله الداخلية كنت بقعد اشتم فيهم وأقول منهم لله بيموتوا ولادنا لكن إسلام كان يقول لي لا يا ماما مش كلهم في ناس محترمين وكان بيدافع عنهم''، وبوفاة ''إسلام'' لم تستطع الأم منع نفسها من قول '' قعدت أقول كنت بتدافع عنهم وفي النهاية هم اللي قتلوك''.
كرة القدم في حياة ''إسلام'' كانت جزء لا ينفصل عن شخصيته '' كان بيحب الكورة والنادي الأهلي جداً على طول كان مشغل التليفزيون على الكورة''.. قالتها الأم الثكلى .
ما يقرب من شهرين ونصف فقط؛ شاء القدر أن تكون الفاصل في حياة '' إسلام''، ففي عامه ال13 أخبر والدته عن ''الأولتراس'' الذي لم تكن تعلم عنه سوى أنهم مجموعة شباب تشجع النادي الأهلي، وباءت الفكرة بالرفض وقتها، ليكمل عامه الـ14 وتعاوده الفكرة ومعها أخذ '' يتحايل عليا كتير جدا ويقولي يا ماما دلوقتي بقيت 14 سنة أهو''.
''إسلام'' في ذلك الوقت كان بالصف الثاني الإعدادي ووجدت والدته أن '' مذكرته قلت عن الأول''، لكن كانت رغبته في الانضمام للأولتراس قوية بشكل لافت للنظر حتى وصل الأمر لاتفاق بينه ووالدته '' قالي لأ أنا هذاكر زي الأول ومش هيعطلني عنها وقالي عايزاني أجيب مجموع قد إيه ويبقى مكافئتي أنضم للاولتراس'' .
وفيما أشبه بالتفاوض، تم الاتفاق بينهما في النهاية أن حصوله على 95% هو الفيصل في الانضمام ''للأولتراس'' خاصة وأنه كان دائم الحصول في سنواته السابقة على مجموع 99%، وما كان من ''إسلام'' إلا أنه '' كان بيذاكر ليل نهار وفي النهاية جاب 96%''.
''ما شوفتش ابني فرحان بالشكل ده قبل كده مش عشان جاب 96 % لكن عشان هينضم للأولتراس''.. هكذا وصفت والدة ''إسلام'' تلك اللحظات التي لم تكن تعلم أنها أوشكت لتكون الأخيرة.
ومع أول اجتماع لـ''إسلام'' مع ''الأولتراس'' أدركت الأم مدى ارتباط وحب ابنها بهم، فهي '' مكنتش أعرف موضوع أن في اجتماعات كل فترة وقبل الماتشات، وجه في مرة قالي يا ماما في اجتماع ورجع متأخر الساعة 10 بليل، وقتها زعلت منه وقولت له سيبك من العيال الصايعة دي''.
وفاجئ والدة ''إسلام'' رد فعله فلذة كبدها الذي وصفته '' بصلي كأن حد غلط فيا أو باباه وقال لي حرام عليكي يا ماما ما تقوليش عليهم كده دول رجالة أوي''، وأخذ يحكي لها عن الذي يفعلونه كم يقضون من الوقت ويبذلون من مصروفهم من أجل ناديهم الأهلي، وخوفهم وارتباطهم ببعض.
وإن شعرت الوالدة بحماس ابنها وقتها لكنها تأكدت من كلماته '' عرفت بعد ما مات إسلام أنه فعلا كان عنده حق الولاد دول رجالة بجد شباب محترم ومؤدب؛ هما اللي وقفوا معايا لولاهم أنا كنت انهرت بعد وفاة إسلام هما دايما بيسألوا عليا ودايما بيقولولي مش عايزة حاجة يا أمي''.
وعلى الرغم من ذلك لم يتسلل الندم ولو للحظة إلى قلب والدة ''إسلام'' بسبب انضامه ''للأولتراس'' بل على العكس '' أنا فخورة أن ابني الله يرحمه بينتمي للأولتراس''.
تأتي هذه الأيام مع تأكيد شعورها بأن حياتها اختلفت بعد رحيل أكبر أبنائها؛ فمتابعة المحاكمات أصبحت الشاغل الأكبر لها تمسكاً بحقه '' إن شاء مش هسيب حقه عشان لو موت أقابله أقوله يا إسلام أنا مقصرتش وتعبت عشان أجيب حقك بس مقدرتش''.
''عمر'' الأخ الأصغر لـ''إسلام'' ربما هو العزاء لوالدته إلى جانب أخواته ''آلاء ومحمد وحسام''، وإن كان له مكانة أكبر لأن ''إسلام'' كان ''روحه في عمر، كان بيقول ده ابني مش أخويا''.
مشاعر الغبطة هي ما تصف حالة الأم تجاه أحلام ابنها الأصغر ''عمر''؛ حيث دائما ما يرى ''إسلام'' بها، وكم تتمنى أن يأتيها بمنامها ولو مرة واحدة فتضمه إلي حضنها لكنها تكتفي الآن بكلمات ابنها '' ماما إسلام جالي امبارح ولعب معايا كورة، ماما إسلام امبارح جالي وركبني جمل، لأ مكنتش خايف إسلام كان ماسكني كويس''.
لا ترغب والدة '' إسلام'' غير أن تصل رسالتها '' الناس تفضل تدعي له على طول ولو بإيدي أقف في ميدان وبأعلى صوتي أقول ادعوا له، أنا مطمنة إن شاء الله هو في الجنة ونعيمها بس ادعوا لابني''.